ألا بذكر الله تطمئن القلوب
سعادة الإنسان في هذه الحياة في اطمئنان قلبه ، وراحة باله ،
واستقرار خواطره ، وقد أرشد الله عباده في كلمة موجزة حكيمة
إلى الوسيلة التي تحقق لهم هذه السعادة وتقيهم من عذاب القلق والاضطراب ،
وآلام الجزع والهلع ، وشقاء الشك والارتياب ، فقال جل ثناؤه ،
وهو أصدق القائلين :
{ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [ الرعد : 28 ] .
وذكر الله الذي تطمئن به القلوب ، ليس هو مجرد ترديد اللسان لاسم من أسمائه ،
أو صفة من صفاته ، وإنما هو تذكير ألوهيته وعظمته ،
واستشعار رأفته ورحمته ، وقهره وعزته ، واستحضار حكمته في سننه ،
وعدالته في قضائه .
* * *
فمن رَاضَ نفسه على أن يتذكر ربه في جميع حالاته :
في سرائه وضرائه ، وفي شدته ورضائه ، وفي صحته وسقمه ،
وفي طاعته ومعصيته ، أسند كل أمر إلى مصدره
واطمأن إلى حكمة الله فيما نزل به ، فَسَكن قلبه ،
واستراح من الهم والحزن على ما فاته ، ومن الزَّهو والبطر بما جاءه ،
وأًمِن متاعب القلق والاضطراب .
- فإذا ابْتُلى بفقد عزيز عليه ، أو بكارثة نزلت به ،
وتذكر ربه وأن كل ما كان وما يكون ، إنما هو مقتضى إرادته ونفاذ لحكمه ،
وإنه لا رادَّ لما أراده ، ولا مُعقب لحكمه ، واطمأن قلبه ،
وسكن إلى ما قضى به ربه ، وسلم واستسلم ،
ولم يجد في صدره حرجا مما أراد الله ، ولا اعتراضًا على ما حكم به الله ؛
وفي هذا الاطمئان عزاء وسلوان ، ورضا وراحة بال .
قال تعالى :
{ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ
إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [ الحديد : 22 ] .
- وإذا خسر التاجر في تجارته ، أو خاب العامل في سعيه ،
أو رسب الطالب في امتحانه ، أو فات الإنسان أي خير كان يرجوه ،
وتذكَّر ربه ، وأنه لن يصيب أحدًا إلا ما كتبه الله له ،
وإن يرده بخير فلا رادَّ لفضله ، اطمأن قلبه إلى أن ما فاته لم يكن له ،
وإلى أنه لو كان له ما فاته ،
وفي هذا راحة من الاسترسال في الهم والحزن ووقاية من السخط واليأس ،
قال تعالى :
{ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ }
[ فاطر : 2 ] .
- وإذا أوتى الإنسان نعمة وزاده الله بسطة في الرزق والعلم ،
أو العافية أو الثراء أو الجاه ، وتذكَّر ربه ، وأن هذا الذي ينعم فيه
– إنما هو من فضل الله عليه ، وإحسانه إليه – اطمأن قلبه إلى رحمة الله وكرمه ،
وانطلق لسانه بحمده وشكره ، وشكر النعمة يزيد المنعم كرما وإحسانًا .
قال تعالى :
{ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [ إبراهيم : 7 ] .
- وإذا وفق الإنسان إلى طاعة ربه والعمل بما يُرضيه ، وتقرَّب إليه وتذكر ربه ،
وأنه لا يضيع أجر من أحسن عملا ، وأنه إنما يجزى العامل على نيته ،
وأنه ينظر إلى القلوب والسرائر ، لا إلى الصور والظواهر ،
أخلص في عمله ؛ وَوَجَّه وَجْهَهُ لمن يهديه ويجزيه .
قال صلى الله عليه وسلم :
(( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى )) .
- وإذا وقع الإنسان في خطيئة أو اقتراف إثما وتذكَّر ربه ،
وأنه غافر الذنب وقابل التوبة لم ييأس من رحمة الله ،
ووجد السبيل ممهدة للتوبة والإنابة ، ورجاء العفو والمغفرة ،
قال تعالى :
{ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ
فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ
وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ } [ آل عمران : 135 ] .
* * *
فتذكر الله وصفاته وآيات رحمته وقدرته ، يحي الضمير ،
وتستيقظ حاسة الخير ، وتسكن النفس إلى الحقائق ،
وبهذا يطمئن القلب وتهون الشدة ، ويستحق الإنسان معونة ربه وتوفيقه .
روي البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
(( يقول الله عز وجل :
(( أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني )) .
ومن هذا نتبين الحكمة في أن الله أعد المغفرة والأجر العظيم ،
للذاكرين الله كثيرًا والذاكرات .
وعدّ أولى الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودًا وعلى جنوبهم .
{وعدَّ ذكر الله أكبر من الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر .
{إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } [ العنكبوت : 45 ] .
ونتبين الحكمة في أن الله سبحانه توعَّد الغافلين عن ذكره ،
ونهى عن طاعتهم واتباعهم ، وأمر باجتنابهم والإعراض عنهم فقال عز شأنه :
{ وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً }
[ الكهف : 28 ]
وقال سبحانه :
{ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } [ لنجم : 29 ] .
وقال جل ثناؤه : { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ }
[ الزخرف : 36 ] .
ذلك لأن الغافل عن ذكر ربه لا يستشعر آياته وصفاته في محنة ولا نعمة
ولا في طاعة ولا معصية يشقى حتى في النعمة ويضل حتى في الطاعة .
فإن أصابته محنة لم يجد ملجأ ولا مفزعا وتضيق الدنيا في وجهه
وتتراكم خواطر الشر والسوء في عقله ،
ويستولى عليه اليأس والقنوط ، مصداق قول الله سبحانه :
{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً } [ طـه : 124 ] .
وإذا ناله خير استقبله بالأَشَر والبطر ، والزهو والغرور ؛
وفي غفلة عن ذكر الله يستخدم نعم الله لمعصيته ،
ولهذا يعرض النعمة للزوال .
وفي الأثر يقول :
(( إذا رأيتم الله يعطى العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته ،
فإن ذلك منه استدراج ،
ثم تلا قوله تعالى :
{ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا
بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } [ الأنعام : 44 ]
آي آسفون حزنون . وإذا وفق إلى طاعته اغتر بظاهر عمله ،
ونسى أن لن يدخل أحد الجنة بعمله ، إلا أن يتغمده الله برحمته ،
ويتقبل عمله بقبول حسن وإذا وقع في معصية استمرأ العصيان
وأصر على ما فعل ، وران على قلبه ما كسبه .
فمن أراد الله له الخير ، وَفَّقه إلى أن يكون على ذكر بربه في كل حالاته ،
فيحيا ضميره ، ويطمئن قلبه ، وتستيقظ حاسة الخير فيه ،
ومن أراد الله به السوء أغفل قلبه عن ذكره ، فاستسلم لهواجسه ،
واستحوذت عليه وساوسه وشكوكه ، وكان أمره فُرطًا –
أي بعيدًا عن الصواب ، غير واقف عند الحدّ الذي حده ربه ،
{ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً }
[ الكهف : 17 ] .