**الْتِفاتَة قَلْب**
ولَمّا تَقَرَّر أن القَلْب بَيْت الرَّبّ تعظيما وإجلالا وإفرادا ،
كان لا بُدّ للقَلْب أن يُوحِّد الله ويُفرِده بأعماله ..
ومِن هنا كان تصحيح أعمال القلوب أحبّ إلى الله مِن تصحيح
كثير مِن أعمال الجوارح ؛ لأنها إذا صَلَحت أعمال القلب صلَحت سائر الأعمال ..
إذ القَلْب هو الأصل
، والأعمال ثَمَرة ، والقلب مَلِك ، والأعضاء جنوده ..
وفي الحديث : ألا وإن في الجسد مُضْغَة ، إذا صَلَحت صَلَح الجسد كله ،
وإذا فَسَدت فَسَد الجسد كله ، ألا وهي القلب . رواه البخاري ومسلم .
قال أبو هريرة :
القلب مَلِكٌ والأعضاء جنوده ، فإذا طاب الملك طابَتْ جنوده ، وإذا خَبُثَ الملك خَبُثت جنوده .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
وقول أبي هريرة تَقْرِيب ،
وقول النبي صلى الله عليه وسلم أحسن بَيَانًا
؛ فإن الملك وإن كان صالحا فالْجُنْد لهم اختيار ، قد يَعْصُون به مَلِكَهم وبالعكس
فيكون فيهم صلاح مع فَسَاده ، أو فَسَاد مع صَلاحِه ،
بِخلاف القلب ؛
فإن الجسد تابِع له لا يَخرج عن إرادته قط
، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا صَلَحت صَلَح لها سائر الجسد ،
وإذا فَسدت فَسد لها سائر الجسد "
فإذا كان القلب صالحا بما فيه من الإيمان عِلْما وعَملاً قَلْبِيا
، لَزِم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر والعمل بالإيمان المطلق . .
وإن مِن أجلّ أعمال القلب
إفراد الله تعالى بالتوكّل عليه
.
والتوكّل :
هو اعتماد القلب على الله ، والـثِّقَة بما عنده سبحانه وتعالى
، واليأس مما في أيدي الناس .
كما قال ابن القيم .وقال في كِتاب " الفوائد " :
وسِرُّ التَّوَكًّل وحَقِيقَتُه : هو اعْتِمَادُ القَلَبِ عَلى اللهِ وحْدَه . .
وأن لا يَلتَفِت إلى الأسباب ، وإن عَمِل الأسباب لأنه مأمور بها
، إلاّ أنه يعمل بالأسباب ثقَة بِمُسبب الأسباب ..
وأعلى مقامات التوكّل
مقامات الأنبياء ..
فَعِندما أُفْرِد خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام وحيدا فريدا في المنجنيق
ليُرْمَى في النار ، كانت ثقته بالله عزّ وَجَلّ ، ولم يلتفت إلى غيره
، فقال : حسبنا الله ونِعْم الوكيل ،
فأتى الأمر مِن فوق سبْع سماوات :
(قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ)
فَوَقَاه الله شرّ النار وشرّ الأشرار .
وعندما خَرَج نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام ببني إسرائيل ،
ولحقه فرعون وجنوده
، قال بنو إسرائيل : إنّا لَمْدُرَكون ،
فقال موسى عليه الصلاة والسلام بِلسان الواثق بالله عزّ وَجَلّ
(كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) ،
وهو يَرى البحر مِن أمامه والعدو مِن خَلْفه
، فما أسْرع ما أتاه الفَرَج لِثقته بالله عزّ وَجَلّ
(فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) .
وعندما نامَ نَبِيُّنا صلى الله عليه وسلم تحت شجرة وعَلَّق سَيفه بِتلك الشجرة ،
جاءه رجل من المشركين ، فاخْتَرَط السيف
ثم قال : مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي ؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهُ . كما في الصحيحين .
فَمَنعه الله بِثقته به وتوكّله عليه .
ولَمّا طابَتْ قلوب المؤمنين بالتوكُّل على الله ، وصَدَقَتْ في توكّلها عليه
؛ جزاهم بِما توكّلوا عليه جنة وحريرا ، وأدخلهم الجنة بِغير حِسَاب ..
ففي الحديث : يدخل الجنة مِن أمتي سبعون ألْفًا بغير حساب :
هم الذين لا يَسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون . رواه البخاري ومسلم
.
فالقاسِم الْمُشْتَرَك بين هذه الأفعال : أنهم على ربهم يتوكّلون ..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
الذي عليه الجمهور أن الْمُتَوكِّل يَحْصل له بِتَوكّله مِن جَلْب المنفعة ودَفْع الْمَضَرَّة
ما لا يَحْصل لغيره ، وكذلك الداعي . والقرآن يَدُلّ على ذلك في مواضع كثيرة .
وكُلَّما كان توكّل الإنسان على الله أقوى وأتمّ نَفَعه تَوَكّله ..
ولا يجوز أن يلْتَفِت القلب في تَوَكّله على غير الله .. سواء كان ذلك بِجَلْب نَفْع ، أو دَفْع ضرّ ..
قال الله عزّ وَجَلّ لِنبِيِّـه صلى الله عليه وسلم : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ)
وقال له سبحانه : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ)
وأمَر المؤمنين بما أمَر به الْمُرْسَلين ،
فقال : (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)
ذلك لأن التوكّل لا يَصلح إلاّ على الحي الذي لا يموت ، لا إله غيره :
(اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) .
ولَمّا الْتَفَت قَلْب يوسف عليه الصلاة والسلام إلى بَشَر مثله لَبِث في السجن بِضْع سنين .
قال ابن عباس رضي الله عنهما :
عَثَر يوسف عليه السلام حين قال : ( اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) ،
فَلَبِث في السجن بِضع سِنين ، وأنْسَاه الشيطان ذِكْر رَبِّـه . رواه ابن جرير في تفسيره .
وقال ابن عباس أيضا :
عُوقِب يوسف بِطُول الحبس بِضع سنين لَمَّا قال للذي نجا منهما
" اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ" ، ولو ذَكَر يُوسف رَبه لَخَلَّصَه
.
فَكُلَّمَا كان اعتماد القلْب على الله أقوى ،
كان حُسْن ظنِّ العبد بِربّه أعظم ؛
وكُلّما كان ذلك كذلك
كان أسْرع إلى نَيْل المطلوب وتحقيق المقصود .
وقد تكفّل الله عَزّ وَجَلّ بِكفاية مَن توكَّل عليه
، فقال : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) .
قال الفضيل :
والله لو يَئستَ مِنَ الْخَلْق حتَّى لا تُريد منهم شيئا ، لأعطاك مَولاك كُلَّ ما تُريد .
قال ابن رجب :
ومِن لطائف أسْرار اقْتران الفَرَج بالكَرب واليُسر بِالعُسر :
أنَّ الكربَ إذا اشْتدَّ وعَظُمَ وتَنَاهى ،
وحَصل للعبد الإياس مِن كَشفه مِن جهة المخلوقين
، وتَعَلَّق قَلبُه بالله وحده -
وهذا هو حقيقةُ التوكُّل على الله - وهو مِن أعظم الأسباب التي تُطلَبُ بها الحوائجُ
، فإنَّ الله يَكْفي مَن توكَّل عليه .
للشيخ - عبدالرحمن السحيم
عضو مركز الدعوة والإرشاد بالرياض