“اذا رأيت الرجل يحب عمر بن عبد العزيز ويذكر محاسنه وينشرها فاعلم ان من وراء ذلك خيرا ان شاء الله” هكذا علق الامام احمد بن حنبل على سيرة خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبدالعزيز.
عمر بن عبدالعزيز المجدد الأول لشباب الاسلام على رأس المائة الاولى، اقبلت عليه الدنيا بخيلها ورجلها فأعرض عنها، رغبة في النعيم المقيم. وفي سنتين وخمسة أشهر ملأ الارض عدلا، بعد ان ضجت بالظلم والفجور، ولم يحتمله الظالمون وسقوه السم جرعة واحدة فمات شهيدا وعادت الارض سيرتها الاولى.
ولد عمر بن عبدالعزيز في حلوان بمصر عام 61 وقيل 63ه، كان أبوه أميرا عليها وأمه هي أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وكان الخليفة الراشد أسمر رقيق الوجه حسنه نحيف الجسم حسن اللحية، غائر العينين بوجهه اثر قديم لرفسة دابة.
عندما كان الخليفة سليمان بن عبدالملك في مرض الموت استخلف عمر بن عبدالعزيز امتثالا لنصيحة مستشاره رجاء بن حيوة.
وبعد وفاة سليمان قام عمر بدفنه، وبعد ان فرغ من ذلك سمع ضجة وجلبة فقال: ما هذا؟ فقيل له: هذه مراكب الخلافة يا أمير المؤمنين قربت إليك لتركبها، فقال: ما لي ولها، ابعدوها عني، قربوا إلي بغلتي. فقربت اليه بغلته فركبها، فجاءه صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة. فقال: تنح عني مالي ولك، وانما انا رجل من المسلمين، فسار وسار معه الناس حتى دخل المسجد فصعد المنبر واجتمع اليه الناس فقال: ايها الناس اني قد ابتليت بهذا الامر من غير رأي كان مني فيه ولا طلبة له ولا مشورة من المسلمين، واني قد خلعت ما في اعناقكم من بيعتي فاختاروا لانفسكم، فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضينا بك. فتول امرنا باليمن والبركة، فلما رأى الاصوات قد هدأت رفع صوته حتى اسمع الناس فقال: يا أيها الناس من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، اطيعوني ما أطعت الله، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم.
دموع الورع
وتصف ورعه وخشيته زوجته فاطمة بنت عبدالملك: لم أر من الناس أحدا كان أشد خوفا من ربه من عمر، كان اذا دخل البيت القى نفسه في مسجده فلا يزال يبكي ويدعو حتى تغلب عيناه ثم يستيقظ فيفعل ذلك ليلته اجمع.
وعن عطاء بن رباح قال: حدثتني فاطمة امرأة عمر بن عبدالعزيز انها دخلت عليه فاذا هو في مصلاه يده على خده، سائلة دموعه فقالت: يا أمير المؤمنين ألشيء حدث؟ قال: يا فاطمة اني تقلدت امر أمة محمد صلى الله عليه وسلم فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود والمظلوم المقهور والغريب المأسور والكبير وذي العيال في اقطار الارض فعلمت ان ربي سيسألني عنهم.
ولم تعجب هذه السيرة بني مروان فاجتمعوا على باب عمر بن عبدالعزيز، وجاء عبدالملك بن عمر ليدخل على ابيه فقالوا له: اما ان تستأذن لنا، واما ان تبلغ امير المؤمنين عنا: ان من كان قبله من الخلفاء يعطينا ويعرف لنا موضعنا، وان قد حرمنا ما في يديه، فدخل عبدالملك على أبيه فأخبره بما قالوا فقال عمر: قل لهم: “اني اخاف ان عصيت ربي عذاب يوم عظيم”.
وكان عمر بن عبدالعزيز فقيها حليما، فقد كتب اليه عبدالحميد بن عبدالرحمن يقول: رفع الي رجل يسبك فهممت ان اضرب عنقه فحبسته وكتبت اليك لأرى في ذلك رأيك. فكتب اليه: لو قتلته لاقتدتك (اي لقتلتك به) انه لا يقتل احد بسباب احد الا من سب النبي صلى الله عليه وسلم فاشتمه ان شئت او خل سبيله.
ان عمر بن عبدالعزيز كان نفحة من عدل الله نثرت على الارض ففاح عبيرها ثم صعدت الى بارئها فلم يكد عمر بن عبدالعزيز يأخذ ما في يد الاغنياء ليعطيه للفقراء حتى كانت المؤامرة باغتياله.
مرحبا بهذه الوجوه
توفي عمر بن عبدالعزيز بدير سمعان من اعمال حمص في آخر رجب عام 101ه وعمره تسع وثلاثون سنة وستة أشهر، وكانت وفاته بالسم، وكانت بنو أمية كما يقول تاريخ الخلفاء قد تبرموا به، لكونه شدد عليهم، وانتزع من ايديهم كثيرا مما غصبوه، وكان قد أهمل التحرز أي لم يهتم بسلامته.
قال مجاهد: قال لي عمر بن عبدالعزيز: ما يقول الناس فيّ؟ قلت: يقولون مسحور، قال: ما انا بمسحور وإني لأعلم الساعة التي سقيت فيها، ثم دعا غلاما له فقال له: ويحك ما حملك على ان تسقيني السم؟ قال: الف دينار اعطيتها وعلى ان اعتق، قال: هاتها. قال: فجاء بها فألقاها في بيت المال وقال: اذهب حيث لا يراك احد.
وعن عبيد بن حسان قال: لما احتضر عمر بن عبدالعزيز قال. اخرجوا عني، فلا يبقى عندي احد، وكان عنده مسلمة بن عبدالملك قال: فخرجوا، فقعد على الباب هو وفاطمة، فسمعوه يقول: مرحبا بهذه الوجوه، ليست بوجوه انس ولا جان. ثم قال: [تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا والعاقبة للمتقين]، ثم هدأ الصوت فقال مسلمة لفاطمة: قد قبض صاحبك. فدخلوا فوجدوه قد أسلم الروح.
ويقول ابن الجوزي في سيرة عمر: بلغني ان المنصور قال لعبدالرحمن بن القاسم بن محمد بن ابي بكر يعظه قال: مات عمر بن عبدالعزيز رحمه الله وترك احد عشر ابنا، وبلغت تركته سبعة عشر ديناراً، كفن منها بخمسة دنانير، واشتري له موضع قبره بدينارين، وقسم الباقي على بنيه، وأصاب كل واحد من ولده تسعة عشر درهما، ويقارن عبدالرحمن بن القاسم فيقول: ولما مات هشام بن عبدالملك وخلف احد عشر ابنا قسمت تركته واصاب كل واحد من تركته الف الف اي مليون ورأيت رجلا من ولد عمر بن عبدالعزيز قد تصدق بمائة فرس في سبيل الله عز وجل ورأيت رجلا من ولد هشام يتصدق عليه.