الحمد لله نشر في الكون آيات عظمته،وأفاض على عباده من خيراته ونعمته،
أحمده سبحانه أكرم عباده المؤمنين الصالحين برحمته ومحبته ووعدهم رضوانه وجنته،
وأشكره سبحانه شكراً عظيماً يليق بعظمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
شهادة أرجو بها نيل رحمته ومحبته،وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله
بلغ رسالته وأدى أمانته ونصح لأمته صلى الله عليه وعلى آله وصحابته.أما بعد:
تكلمنا في مقال سابق عن بعض الأسباب التي ينال بها العبد محبة ربه ومولاه،
وفي هذا المقال نكمل الحديث حول أسباب أخرى للفوز بهذه المحبة، ومنها:
السبب السادس:
مشاهدة بره سبحانه وإحسانه، وآلائه ونعمه الباطنة والظاهرة فإنها داعية إلى محبته
إن العبد أسير الإحسان؛ فالإنعام والبر واللطف، معاني تسترق مشاعره،
وتستولي على أحاسيسه، وتدفعه إلى محبة من يسدي إليه النعمة ويهدي إليه المعروف.
والناس مجبولون على محبة من يحسن إليهم
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الناس إحسان
ولا منعم على الحقيقة ولا محسن إلا الله، هذه دلالة العقل الصريح والنقل الصحيح
وأنواع إحسانه لا يحيط بها حصر:
{وإِن تَعُدُوا نِعمَتَ اللّهِ لاَ تُحصُوهَآ إنّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ }(إبراهيم:34).
فلا محبوب في الحقيقة عند ذوي البصائر إلا الله تعالى، ولا مستحق للمحبة كلها سواه،
وإنما يحب غيره تبعا لمحبته سبحانه، وصور إحسانه ومظاهرها أجل من أن يحيط بها العبد،
يقول ابن القيم رحمه الله:
(لا أحد أعظم إحسانًا من الله سبحانه، فإن إحسانه على عبده في كل نَفَس ولحظة،
وهو يتقلب في إحسانه في جميع أحواله، ولا سبيل له إلى ضبط أجناس هذا الإحسان،
فضلاً عن أنواعه أو عن أفراده، ويكفي أن من بعض أنواعه نعمة النَّفَس
التي لا تكاد تخطر ببال العبد،
وله عليه في كل يوم وليلة فيه أربعة وعشرون ألف نعمة،
فإنه يتنفس في اليوم والليلة أربعة وعشرين ألف نفس،
وكل نفس نعمة منه سبحانه،
فإذا كان أدنى نعمة عليه في كل يوم أربعة وعشرين ألف نعمة،
فما الظن بما فوق ذلك وأعظم منه:
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]،
هذا إلى ما يصرف عنه من المضرات وأنواع الأذى التي تقصده،
ولعلها توازن النعم في الكثرة، والعبد لا شعور به بأكثرها أصلاً،
والله سبحانه يكلؤه ( يحفظه) منها بالليل والنهار كما قال تعالى:
{قُلْ مَن يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء:42]).
وقال -رحمه الله- موضحًا عظيم إحسان الله إلى عباده في كل مراحل حياتهم:
(الرزق والأجل قرينان مضمونان. فما دام الأجل باقيًا، كان الرزق آتيا،
وإذا سد عليك بحكمته طريقًا من طرقه، فتح لك برحمته طريقًا أنفع لك منه.
فتأمّل حال الجنين يأتيه غذاؤه... من طريق واحدة وهو السرّة (الحبل السرّي)،
فلما خرج من بطن الأم، وانقطعت تلك الطريق، فتح له طريقين اثنين،
وأجرى له فيهما رزقًا أطيب وألذ من الأول، لبنًا خالصًا سائغًا.
فإذا تمت مدة الرضاع، وانقطعت الطريقان بالفطام،
فتح طرقًا أربع أكمل منها:
طعامان وشرابان، فالطعامان من الحيوان والنبات، والشرابان من المياه والألبان،
وما يُضاف إليهما من المنافع والملاذ. فإذا مات انقطعت عنه هذه الطرق الأربعة.
لكنه سبحانه فتح له -إن كان سعيدًا- طرقًا ثمانية،
وهي أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها يشاء).
وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى استشعار هذا المعنى فقال:
"إنَّ يمينَ اللهِ مَلْأَى لا يغيضُها نفقةٌ ، سحَّاءُ الليلَ والنهارَ ،
أرأيتم ما أنفق منذُ خلق السماواتِ والأرضِ ، فإنَّهُ لم ينقص ما في يمينِه..." ( البخاري).
وكان يقول إذا أصبح وإذا أمسى: "أبوء لك بنعمتك علي...".
فإذا تفكر العبد في هذا المعنى امتلأ قلبه بحب ربه واندفعت جوارحه لطاعته
والتقرب إليه بما يحب فأحبه ربه تبارك وتعالى.
السبب السابع:
وهو من أعجبها: انكسار القلب بكليته، بين يدي الله تعالى،
وليس في التعبير عن المعنى غير الأسماء والعبارات.
والانكسار بمعنى الخشوع، وهو الذل والسكون.
قال تعالى: {وَخَشَعَتِ الأَصوَاتُ لِلرّحمَنِ فَلاَ تَسمَعُ إِلا هَمساً }(طه:108).
وقال ابن القيم:
( الحق أن الخشوع معنى يلتئم من التعظيم والمحبة والذل والانكسار ).
ويقول ابن رجب رحمه الله عن الخشوع:
(أصله لين القلب ورقته، وخضوعه وانكساره وحرقته،
فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء؛
لأنها تابعة له، كما قال صلى الله عليه وسلم:
"... أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً ... "(رواه البخاري ومسلم).
وكان صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه في الصلاة:
"...خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي...". (رواه مسلم).
وقد كان للسلف في الخشوع بين يدي الله أحوال عجيبة،
تدل على ما كانت عليه قلوبهم من الصفاء والنقاء.
كان عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما إذا قام في الصلاة كأنه عود، من الخشوع،
وكان يسجد فتنزل العصافير على ظهره لا تحسبه إلا جذع نخلة أو شجرة.
وكان علي بن الحسين رضي الله عنهما إذا توضأ اصفّر لونه، فقيل له:
ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟
قال: ( أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟ ).
السبب الثامن:
الخلوة به وقت النزول الإلهي،
لمناجاته وتلاوة كلامه والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه،
ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.
قال تعالى:
{تَتَجافى جُنُوبُهُم عَنِ المَضاجِعِ يَدعون ربهم خوفاً وَطَمَعاً وَمِمّا رَزَقناهُم يُنفِقُونَ }
(السجدة:16).
إن أصحاب الليل هم بلا شك من أهل المحبة، بل هم من أشرف أهل المحبة،
لأن قيامهم في الليل بين يدي اللّه تعالى يجمعُ لهم جلّ أسباب المحبة التي سبق ذكرها.
ولهذا فلا عجب أن ينزل أمين السماء جبريل عليه السلام على أمين الأرض
محمد صلى اللّه عليه وسلم ويقول له:
" واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل وعزه استغناؤه عن الناس " (السلسلة الصحيحة).
يقول الحسن البصري رحمه اللّه:
( لم أجد من العبادة شيئاً أشد من الصلاة في جوف الليل فقيل له:
ما بال المتجهدين من أحسن الناس وجوهاً؟ فقال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره ).
قوم أقاموا للإله نفوسهم فكسا وجوههم الكريمة نورا
السبب التاسع:
مجالسة المحبين الصادقين،
والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقي أطايب الثمر،
ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام وعلمت أن فيه مزيداً لحالك ومنفعة لغيرك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" قال الله عز وجل:
وجبت محبتي للمتحابين فيّ، ووجبت محبتي للمتجالسين فيّ،
ووجبت محبتي للمتزاورين فيّ "
(صححه الألباني).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أوثق عرى الإيمان أن تحب في اللّه وتبغض في الله " (السلسلة الصحيحة).
فمحبة المسلم لأخيه المسلم في الله، ثمرة لصدق الإيمان وحسن الخلق وهي سياج واق،
ويحفظ الله به قلب العبد، ويشد فيه الإيمان حتى لا يتفلت أو يضعف.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
"أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى . فأرصد الله له ، على مدرجته ، ملكا .
فلما أتى عليه قال : أين تريد ؟ قال : أريد أخا لي في هذه القرية .
قال : هل لك عليه من نعمة تربها ؟ قال : لا . غير أني أحببته في الله عز وجل .
قال : فإني رسول الله إليك ، بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه" ( مسلم ).
السبب العاشر:
مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل
فالقلب إذا فسد فلن يجد المرء فائدة فيما يصلحه من شؤون دنياه
ولن يجد نفعاً أو كسباً في أخراه.
قال تعالى:
{يَومَ لَا يَنفَعُ مَالٌ ولاَ بَنُوُنَ إِلاّ مَن أَتَى اللهَ بِقَلبٍ سَلِيمٍ }(الشعراء:88).
وقد عرفت أيها الكريم أن فساد القلب يؤدي إلى فساد البدن كما في الحديث"
ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح البدن كله،
وإذا فسدت فسد البدن كله، ألا وهي القلب". (البخاري).
قال ابن تيمية رحمه الله:
(فأخبر أن صلاح القلب مستلزم لصلاح سائر الجسد ، وفساده مستلزم لفساده ،
فإذا رأى ظاهر الجسد فاسدا غير صالح علم أن القلب ليس بصالح بل فاسد ،
ويمتنع فساد الظاهر مع صلاح الباطن كما يمتنع صلاح الظاهر مع فساد الباطن
إذ كان صلاح الظاهر وفساده ملازما لصلاح الباطن وفساده) .
فالله الله في السرائر فإن لها أثرا على الظاهر، قال عثمان رضي الله عنه:
ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله عز وجل على صفحات وجهه وفلتات لسانه.
وقال ابن عقيل في الفنون :
للإيمان روائح ولوائح لا تخفى على اطلاع مكلف بالتلمح للمتفرس ،
وقل أن يضمر مضمر شيئا إلا وظهر مع الزمان على فلتات لسانه وصفحات وجهه.
نسأل الله أن يصلح سرائرنا وعلانيتنا، وأن يرزقنا حبه،إنه ولي ذلك والقادر عليه،
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.