تأملات في قوله تعالى:
﴿ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا ﴾
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
وبعد:
فإنَّ الله أنزَل هذا القرآنَ العظيم لتدبُّرِه والعمل به؛ قال - تعالى -: ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]، وعملاً بهذه الآية الكريمة؛ لنستمع إلى آياتٍ من كتاب الله ونتدبَّر ما فيها من العِظَات والعِبَر؛ قال - تعالى -: ﴿ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلاَ زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإنسان: 13- 22].
قوله - تعالى -: ﴿ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلاَ زَمْهَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 13]:
الاتِّكاء: هو التمكُّن من الجلوس في حال الرفاهية والطمأنينة، والأرائك هي السُّرُر التي عليها اللباس، و﴿ لا يرَوْن فيها شمسًا ﴾؛ أي: ليس يضرُّهم حرٌّ ولا زمهرير؛ أي: برد شديد؛ بل جميع أوقاتهم في ظلٍّ ظَلِيل، بحيث تلتَذُّ به الأجساد ولا تتألَّم من حرٍّ ولا برد، فهو مزاج واحد دائم سرمدي ﴿ لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً ﴾ [الكهف: 108].
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((قالت النار: ربِّ، أكَلَ بعضي بعضًا، فأذن لي أتنفَّس، فأَذِن لها بنفَسَيْن: نفَسٍ في الشتاء، ونفَس في الصيف، فما وجدتم من برد أو زمهرير، فمن نفَس جهنَّم، وما وجدتم من حرٍّ أو حَرُور، فمن نفَس جهنم))[1].
قوله - تعالى -: ﴿ وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا ﴾ [الإنسان: 14]:
قريبة إليهم أغصانها ﴿ وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً ﴾ [الإنسان: 14]؛ أي: متى تَعاطَاه دنا القطف إليه، وتدلَّى من أعلى غصنه كأنَّه سامع طائع، كما في قوله - تعالى -: ﴿ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ﴾ [الرحمن: 54]، وكما في قوله: ﴿ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 23]، قال مجاهد: إنْ قام ارتفعَتْ معه بقدر، وإن قعد تذلَّلتْ له.
قوله - تعالى -: ﴿ وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا ﴾ [الإنسان: 15]:
أي: يطوف عليهم الخدم بأواني الطعام، وهي من فضَّة، وأكواب الشراب، وهي الكيزان التي لا عُرَى لها ولا خَراطِيم.
قوله - تعالى -: ﴿ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ ﴾ [الإنسان: 16]:
قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: بَياض الفِضَّة في صَفاء الزجاج، والقوارير لا تكون إلا من زجاج.
فهذه الأكواب هي من فضة، وهي مع هذا شفَّافة يُرَى ما في باطنها من ظاهرها، وهذا ممَّا لا نَظِير له في الدنيا.
قوله - تعالى -: ﴿ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ﴾ [الإنسان: 16]:
أي: على قدر ريِّهم لا تَزِيد عنه ولا تَنقُص؛ بل هي مُعَدَّة لذلك، وهو قوْلُ جَمْعٍ من المفسِّرين، وهذا أبلَغ في الاعتِناء والشَّرَف والكرامة[2].
قوله - تعالى -: ﴿ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً ﴾ [الإنسان: 17]:
أي: ويُسقَى الأبرار فيها - في هذه الأكواب - ﴿ كَأْسًا ﴾؛ أي: خمرًا ﴿ كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً ﴾، فتارَةً يُمزَج الشراب بالكافور وهو بارد، وتارَةً بالزنجبيل وهو حار؛ ليعتَدِل الأمر، وهؤلاء يُمزَج لهم من هذا تارَةً ومن هذا تارَةً، وأمَّا المقرَّبون فإنهم يشرَبُون من كلٍّ منهما صرفًا، كما قال قتادة وغير واحد.
قوله - تعالى -: ﴿ عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً ﴾ [الإنسان: 18]:
قال قتادة: اسمٌ للعين التي يَشرب بها المقرَّبون صرفًا، وتُمزَج لسائر أهل الجنة، وقال مجاهد: سمِّيت بذلك لسلاسة سيلها، وحِدَّة جريها، وحكى ابن جرير عن بعضهم أنها سُمِّيت بذلك لسلاستها في الحلق، واختَار هو أنها تَعُمُّ ذلك كلَّه، قال ابن كثير: وهو كما قال[3].
قوله - تعالى -: ﴿ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا ﴾ [الإنسان: 19]:
أي: يَطُوف على أهل الجنة للخِدمة وِلدانٌ صِغار من وِلدان الجنة ﴿ مخلَّدون ﴾؛ أي: على حالة واحدة لا يتغيَّرون عنها، لا تَزِيد أعمارهم عن تلك السن، ﴿ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا ﴾؛ أي: إذا رأيتَهم في انتِشارهم في قضاء حوائج السادَة، وكثرتهم، وصباحة وجوههم، وحُسْن ألوانهم وثيابهم وحُلِيِّهم - حسِبتَهم لؤلؤًا منثورًا، ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا، ولا في النظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن.
قوله - تعالى -: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ﴾ [الإنسان: 20]؛ أي: إذا رأيت - يا محمد - هناك في الجنة ونعيمها، وسعتها وارتفاعها، وما فيها من الحَبْرَة والسرور، رأيت نعيمًا وملكًا كبيرًا؛ أي: مملكة لله هناك عظيمة وسلطانًا باهرًا، قال سفيان الثوري: بلَغَنَا أن الملْك الكبير تسلِيم الملائكة عليهم؛ دليله قال - تعالى -: ﴿ وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 23 ، 24].
روى مسلم في "صحيحه" من حديث المُغِيرة بن شُعبَة - رضِي الله عنه - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((سأل موسى ربَّه: ما أدنى أهلِ الجنة منزلةً؟ قال: هو رجل يَجِيء بعدما أُدخِل أهل الجنةِ الجنةَ، فيُقال له: ادخُل الجنةَ، فيقول: أيْ رب، كيف وقد نزل الناسُ منازلَهم، وأخذوا أخذاتِهم؟ فيُقال له: أتَرضَى أن يكون لك مثل مُلْكِ مَلِكٍ من مُلُوك الدنيا؟ فيَقُول: رضيتُ رب، فيقول: لك ذلك ومثله، ومثله، ومثله، ومثله، فقال في الخامسة: رضِيت رب، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهَتْ نفسك ولذَّت عينك، فيقول: رضيت رب، قال: ربِّ، فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردتُ، غرستُ كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تَرَ عينٌ، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر، قال: ومصداقه في كتاب الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾ [السجدة: 17]))[4].
قوله - تعالى -: ﴿ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ ﴾ [الإنسان: 21]:
أي: لباس أهل الجنة فيها الحرير، ومنه سندس، وهو رفيع الحرير كالقمصان ونحوها ممَّا يَلِي أبدانهم، والإستبرق منه ما فيه بريقٌ ولمعان، وهو ممَّا يلي الظاهر كما هو المعهود في اللباس ﴿ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ ﴾ [الإنسان: 21]، الذكور والإناث، هذه صفة الأبرار، أمَّا المقرَّبون فإنهم كما قال - تعالى -: ﴿ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴾ [فاطر: 33].
قوله - تعالى -: ﴿ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ﴾ [الإنسان: 21]:
أي: طهَّر بواطنهم من الحسد والحقد، والغل والأذى، وسائر الخلائق الرديَّة، كما قال - تعالى -: ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ﴾ [الحجر: 47].
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضِي الله عنه -: إذا تَوَجَّه أهل الجنة إلى الجنة، مَرُّوا بشجرة يَخرُج من تحت ساقها عينانِ، فيشربون من إحداهما، فتجري عليهم بنضرة النعيم؛ فلا تتغيَّر أبشارهم، ولا تتشعَّث أشعارهم أبدًا، ثم يَشرَبُون من الأخرى، فتُخرِج ما في بطونهم من الأذى، ثم تستقبلهم خزَنَة الجنَّة فيقولون: ﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾ [الزمر: 73]، وقال النخعي وأبو قلابة: إذا شربوه بعد أكلهم طهَّرهم، وصار ما أكلوه وما شربوه رشح مسك، وضمرت بطونهم[5].
قال الشاعر:
وَجَنَّاتُ عَدْنٍ زُخْرِفَتْ ثُمَّ أُزْلِفَتْ
لِقَوْمٍ عَلَى التَّقْوَى دَوَامًا تَبَتَّلُوا
بِهَا كُلُّ مَا تَهْوَى النُّفُوسُ وَتَشْتَهِي
وَقُرَّةُ عَيْنٍ لَيْسَ عَنْهَا تَرَحُّلُ
مَلاَبِسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَسُنْدُسٌ
وَإِسْتَبْرَقٌ لاَ يَعْتَرِيهِ التَّحَلُّلُ
وَأَزْوَاجُهُمْ حُورٌ حِسَانٌ كَوَاعِبٌ
عَلَى مِثْلِ شَكْلِ الشَّمْسِ بَلْ هُوَ أَشْكَلُ
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِالَّذِي يَشْتَهُونَهُ
إِذَا أَكَلُوا نَوْعًا بِآخَرَ بُدِّلُوا
وقال آخر:
فَاعْمَلْ لِدَارٍ غَدًا رِضْوَانُ خَازِنُهَا
الْجَارُ أَحْمَدُ وَالرَّحْمَنُ بَانِيهَا
قُصُورُهَا ذَهَبٌ وَالْمِسْكُ طِينَتُهَا
وَالزَّعْفَرَانُ حَشِيشٌ نَابِتٌ فِيهَا
قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإنسان: 22]:
أي: يُقال لهم ذلك؛ تكريمًا لهم وإحسانًا إليهم، كما قال - تعالى -: ﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾ [الحاقة: 24]، وكما قال - تعالى -: ﴿ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 43].
قوله - تعالى -: ﴿ وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإنسان: 22]؛ أي: جزاكم الله على القليل بالكثير، كما قال - تعالى -: ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإسراء: 19].
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] ص 245، برقم 617 واللفظ له، و"صحيح البخاري" ص 122، برقم 537.
[2] "تفسير ابن كثير" (14/ 213).
[3] "تفسير ابن كثير" (14/ 214)، و"تفسير القرطبي" (21/ 477).
[4] ص 105، برقم 189.