"الحسد بين عذاب النفس وعقاب الجبار"
بسم الله ،والحمد لله ،والله أكبر ولاإله إلا الله ، ونشهد أن محمدا عبد الله ورسوله ، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، إنه من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادى له ،ونعوذ بالله من الشيطان الرجيم . وبعد ...
نتعرض فى هذه الكلمات البسيطة لصفة من أحقر ، وأذم الصفات التى تعدو على صاحبها فتدمره قبل أن تتعدى لغيره ، فتقتحم دخائله وخصوصاته ، إنها صفة الحسد التى هى منفذ إلى جميع أمراض اللسان والفلب ، فاليد تبطش ، واللسان يخوض ، ويحل الدمار للجميع فى الدنيا ، ويغضب الجبار فتتدمر الآخرة .
تلك الصفة القبيحة التى حذر منها الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما لها من آثار مدمرة لصاحبها ولمن تعدت إليه ، ولما تتسبب فيه من أضرار وعداءات بين الأفراد والجماعات .
وأنزل الله قرآنا من فوق سبع سماوات ، ونزل الوحى برسالة السماء ، بسورتى ( قل أعوذ برب الفلق ) ــ ( قل أعوذ برب الناس ) للتعلق بالرحمن للنجاة مما قد تجلبه نفس الحاقد الحاسد من أذى .
كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات للتعوذ بهن من شرور الأنفس وشرور شياطين الإنس والجن فقال :
" أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة " .
وفيم يلى .. نستعرض أضرار هذه الصفة الدميمة ، و أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ذلك ، وقوله تعالى فى الحسد والحاسدين ، كما نستعرض صورا لبعض أشخاص وأقوام دمرهم الحسد ودمر أقوامهم .
عفانا الله وعفاكم من مثل تلك الصفات ومثيلاتها .
*******************
ماهو الحسد...؟
هو تمنى زوال نعمة الغير ،واستكثارها على صاحبها ثم تمنيها للنفس، وهذا يدعو الشخص إلى التطلع إلى أسرار الغير ، وتتبعهم ، وتتبع أخبارهم ، والعداء لهم ، فيورث الأحقاد والغيرة ،
فيسقط الشخص فيما لا يحمد عقباه .
والحسد فى مضمونه إعتراض على قدر الله موزع الأرزاق والأقدار ، وعدم الرضا بعطائه وقضائه .
هذه الصفة تجعل صاحبها دوما فى صراع مع آلام نفسية عندما ينقب عن شئون غيره ، فيجد هذا فى خير ، وهذا فى نعيم ، وهذا سعيد ، وهذا يمتلك ، هذا ينام وهذا يستيقظ ، ويقارن أحواله دائما بأحوال الآخرين ، فينقبض قلبه حسرة ، ويستطير عقله ، وتتقلص أمعاءه وأحشاءه فتمرض من الحقد والحسد والألم ، وينسى أن الشر والخير كلاهما فتنة الله وإختباره للعباد .
قال تعالى ( كل نفس ذائقة الموت. ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون).الأنبياء35
وقد تفضح الحسود عيناه لحقده ، فتلتهب نارا عند رؤية سعادة الآخرين ، وربما لا يشعرون به ، ولا يعبأون بما هو فيه ، وقد يلمحون ذلك فى عينيه ،فينفرون منه ، ويمتنعون
عن معاملته ، ويهابون أن يطلع لأخبارهم ، فيصبح منبوذا محقرا ، ثم يأتيه غضب الرب الذى قد يستعجل له العذاب فى الدنيا ، أو قد يؤخره إلى يوم القيامة
وتمتد نيران حقده لتحرق الغير ، وتبدأ النيران من قلبه وتنطلق إلي لسانه ، فتندلع فيه تعبيرات تنم عما استقر في نفسه فيكرهونه ويتباعدون عن التعامل معه أو معاشرته ، وقد تخوض في أمره الألسنه فبالتالي تقع فالخطيئة بالغيبة ويصير كالوباء يهرب منه وتخفى الأسرار عنه .وفي ذلك ينهانا الله ورسوله في كثير من الآيات والأحاديث نذكر منها التالي :
قال الله تعالى : ( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) النساء 54
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم : " إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ـ أو قال العشب ــ " رواه أبو داود.
وقال صلي الله عليه وسلم عن العين :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " العين حق ، ولو كان شئ سابق القدر سبقته العين " . رواه مسلم
ونهى صلى الله عليه وسلم عن التحاسد والتباغض فقال برواية عن أبي هريرة رضي الله عنه : " لا تحاسدوا ولا تناجشوا ، ولا تباغضوا ولا تدابروا ، ولا يبع بعضكم على بيع بعض ، وكونوا عباد الله إخوانا ، المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ، التقوى ها هنا ــ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ــ بحسب إمرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام : دمه ، وماله ، وعرضه . " رواه مسلم
نظر إبليس نفسه بطريق المقايسه بينه وبين آدم ورأى نفسه أشرف منه ، وامتنع عن تلبية أمر ربه بالسجود وأصرعلى العصيان ، وتعداه إلى توعد ذرية آدم بالغوايه والإفساد ، ليصيبهم ما أصابه من حقد وعذاب دام منذ بدء الخليقه حتى يوم الدين.
قال تعآلي : ( قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين * قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين * قال أنظرنى إلى يوم يبعثون * قال إنك من المنظرين * قال فبما إغويتنى لأقعدن لهم صراطك المستقيم ) الأعراف 12-16
والحسد يدعوصاحبه للتجسس والنظر في بيت الغير وهذا ما نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ، فعن سهل بن سعد الساعدي ، أن رجلا ً جحر باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدري يحك به رأسه ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو أعلم أنك تنظرني لطعنت به في عينك ".
وقال صلى الله عليه وسلم : " إنما جعل الإذن من أجل البصر " رواه مسلم
وسمع عنه صلى الله عليه وسلم أن قال : " من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقئوا عينه " رواه مسلم
ويزهدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فالدنيا ، ليضمن لنا هدؤء النفس والخاطر ، ويقينا بأس بعض وبأس انفسنا ، ويرفع ما قد يجلبه لنا الحسد من تباغض فيقول مطرف عن أبيه : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ [ الهاكم التكاثر ]
قال : " يقول ابن آدم : مالي مالي ، قال : وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت " .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يقول العبد مالي مالي ، إنما له من ماله ثلاث : ما أكل فأفنى ، أو لبس فأبلى ، أو أعطى فأقتنى ، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس " رواه مسلم والبخاري
وعن أنس ابن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يتبع الميت ثلاث فيرجع إثنان ويبقى واحد : يتبعه أهله ، وماله ، وعمله، فيرجع أهله وماله ، ويبقى عمله ".
وعلام الحسد ..؟! ، وقد كتبت الأقدار، ووزعت الأرزاق ، وأحكم التقسيم و التوزيع؟
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال : "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ً ، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل الله تعالى إلى الملك فينفخ فيه الروح و يؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه ،وأجله ، وعمله ، وشقي أو سعيد فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها " رواه مسلم
وهذا يعطي الأمل للحاسد ، أن يتوب من هذه الصفه القبيحة ويقلع عنها ، ولا يقنط من رحمة الله ويعمل بعمل أهل الجنة ليفر من النار ويفوز بالجنة .
لن تغير شيئا ً بحسدك أيه الحسود ، ولن تمنع خيرا بحقدك ولن تأت بشر ، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليهوسلم يقول : " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات زالأرض بخمسين ألف سنة " قال : :" وعرشه على الماء" رواه مسلم
فالأرزاق لا تزيد ولا تنقص وكذلك الآجال ، فعن عبد الله بن مسعود قال : قالت أم حبيبة : اللهم متعني بزوجي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأبي أبي سفيان ، وبأخي معاوية ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنك سألت الله لآجال مضروبة وآثار موطوءة ، وأرزاق مقسومةلا يعجل شيئا منها قبل حله ،ولا يؤخر منها شيئا بعد حله ، ولو سألت الله أن يعافيك من عذاب في النار وعذاب القبر لكان خيرا لك " رواه مسلم
فيأيها الحاسد ، لم تركت نفسك تحسد ، ولم تتركها تعمل لتصل لمثل ما حسدت عليه...؟!
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير ، إحرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ، وإن أصابك شئ فلا تقل : لو أني فعلت كان كذا وكذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان " رواه مسلم
فهلاك أمتنا يكون بهلاك بعضنا ببعض ، فعن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العاليه حتى إذا مر بمسجد بني معاوية ، دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه ودعا ربه طويلا ، ثم إنصرف إلينا ، فقال صلى الله عليه وسلم : " سألت ربي ثلاثا فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة : سألت ربي أن لايهلك أمتي بالسنه فأعطانيها ، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها ، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعينها " رواه مسلم
وعلمنا صلى الله عليه وسلم الرقية من داء هذا المريض فقال ما حكته لنا عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان إذا إشتكي رسول الله صلى الله عليه وسلم رقاه جبريل ، وقال : بسم الله يبريك ، ومن كل داء يشفيك ، ومن شر حاسد إذا حسد وشر كل ذي عين " رواه مسلم
وقال لنا ابن سيرين : ( ما حسدت أحد على شئ من أمر الدنيا : إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا وهي حقيره في جنب الجنة ؟ وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على الدنيا وهو يصير إلى النار ؟ )
فكيف للمسلم أن يتملك التباغض والحسد من قلبه ، والله يأمره بالتسامح والرحمة والتعاون في السراء والضراء ، كيف يتملك من قلبه الحسد ويظل مؤمنا ...؟!
فعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تعرض الأعمال كل يوم إثنين وخميس ، فيغفر الله عز وجل في ذلك اليوم لكل إمرئ لا يشرك بالله شيئا ، إلا إمرءا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول : اتركوا هذين حتى يصطلحا " رواه مسلم
وقال سبحانه وتعآلي : ( فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ) النجم 29
وقال سبحانه يحذرنا : ( إنما يريد الشيطا، أن يوقع بينكم العداوه والبغضاء ) المائده91 بطريق الحسد والتباغض.
الحسود أحمق لا يقبل العلاج ، لم يزن الدنيا بميزانها الحق فلو أن الدنيا تزن جناح بعوضه عند خالقها ما سقى الكافر منها شربة ماء ، ولم يزن الآخرة بميزان العدل ولو كان لتذكر قوله تعآلي : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) فلم يقل أغناكم ولا أعلاكم ولا أشبعكم ولا أكثركم منزلة وحسبا ونسبا.