《الرشيد ....والفضيل بن عياض》
كان الفضل بن الربيع وزير هارون الرشيد، وهذا الخليفة العباسي يتقول عنه الكذابون الأقاويل، هو ليس كذلك، هذه قصة عن هارون الرشيد تتعلق بموضوع الاستشارة.
قال الفضل بن الربيع: حج هارون الرشيد أمير المؤمنين فأتاني - أي أتاه في مكان إقامته - فخرجت مسرعاً وقلت: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إليّ لأتيتك، فقال: ويحك قد حاك في نفسي شيء - هو متضايق، منقبض النفس - فانظر لي رجلاً من أهل العلم يحدثنا فلعلي أرتاح لحديثه، قال: هاهنا سفيان بن عيينة، فقال: امض بنا إليه، فقرعت الباب، فقال: من ذا ؟ قلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعاً وقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إليّ لأتيتك، فقال هارون الرشيد: خذ لما جئناك له رحمك الله - أي دخلا إلى بيته فحادثهم ساعة- ثم قال له: أعليك دين ؟ قال: نعم، قال: يا فضل اقضِ دينه، فلما خرجنا من عنده قال لي: ما أغنى صاحبك عني شيئاً لازلت ضيق النفس، انظر لي رجلاً آخر. فقلت له: هاهنا عبد الرزاق بن همام، قال: امضِ بنا إليه، فأتيناه فقرعنا الباب، فقال: من ؟ قلت: أجب أمير المؤمنين فخرج مسرعاً وقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي لأتيتك، قال: نعم خذ لما جئناك له، فحادثه ساعةً ثم قال: أعليك دين ؟ قال: نعم قال: يا فضل اقض دينه، فخرجنا من عنده، فقال: ما أغنى عني صاحبك شيئاً، أي لازلت ضيق النفس، انظر لي رجلاً آخر، قلت: هاهنا الفضيل بن عياض، قال: امض بنا إليه فأتيناه فإذا هو قائم يصلي يتلو آية من القرآن يرددها كثيراً ويبكي، قال: اقرع الباب قرعنا الباب فقال: من الطارق ؟ قال: أجب أمير المؤمنين، قال: ما لي ولأمير المؤمنين؟ قلت: يا سبحان الله، أما له عليك من حق؟ فنزل وفتح الباب، ثم ارتقى إلى غرفته، وأطفأ السراج، ثم التجأنا إلى زاوية من زوايا البيت فدخلنا فجعلنا نتلمس بأيدينا فسبقت كف هارون الرشيد قبلي إليه فقال: يا لها من كف ما ألينها إذا نجت غداً من عذاب الله، فقلت في نفسي ليكلمنه اليوم كلاماً من القلب النقي.
قال: خذ لما جئناك له رحمك الله، فقال: إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله، ومحمد بن كعب القرظي، ورجاء بن حيوة، فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا عليّ، وعدّ الخلافة بلاءً، وعددتها أنت وصاحبك نعمةً، هذا هو الفرق بينكم، فقال له سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة من عذاب الله فصم عن الدنيا، وليكن إفطارك منها عند الموت، وقال محمد بن كعب: لو أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المؤمنين عندك أباً، وأوسطهم عندك أخاً، وأصغرهم عندك ولداً، فوقر أباك، وأكرم أخاك، وارحم ولدك، وقال له رجاء: إذا أردت النجاة غداً من عذاب الله فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إذا شئت. وإني أقول لك يا أمير المؤمنين: إني أخاف عليك أشدّ الخوف يوم تزل الأقدام فهل معك رحمك الله مثل هؤلاء؟ أي هل في بطانتك مثل هؤلاء ؟ عندئذ بكى هارون الرشيد بكاءً شديداً حتى أغمي عليه - هكذا القصة - فقال الفضل بن الربيع للفضيل بن عياض: أرفق بأمير المؤمنين رحمك الله، قال يا أمير المؤمنين: بلغني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز شكا إليه، فكتب عمر إليه: اذكر طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، وإياك أن ينصرف عنك أهل العلم، فلما قرأ هذا العامل كتاب أمير المؤمنين طوى البلاد حتى قدم على عمر بن عبد العزيز فقال له: ما أقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك ما الذي أقدمني؟ لا أعود إلى الولاية حتى ألقى الله عز وجل، بكى ثانيةً هارون بكاءً شديداً وقال: زدني رحمك الله.
قال يا أمير المؤمنين: إن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا رسول الله أمرني على إمارة، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعت ألا تكون أميراً فافعل، فبكى هارون بكاءً شديداً وقال: زدني رحمك الله، قال: يا أمير المؤمنين يا حسن الوجه أنت الذي يسألك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن أردت أن تتقي هذا الوجه من النار فإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك، فإن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
((من أصبح لهم غاشاً لم يرح رائحة الجنة ))
[المنتظم في تاريخ الأمم لابن الجوزي]
فبكى هارون الرشيد بكاءً رابعاً، وقال: أعليك دين ؟ الآن دققوا الفرق، قال: دين لربي لم يحاسبني عليه فالويل إن سألني، والويل إن لم ألهم حجتي، قال: إنما أعني دين للعباد، قال: إن ربي عز وجل لم يأمرني بهذا فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أشتري شيئاً لا أملك ثمنه"، ثم قال: إن ربي عز وجل لم يأمرني بهذا، أمرني أن أصدق وعده، وأن أطيع أمره، فقال له: خذ ألف دينار وأنفقها على عيالك وتقوَّ بها على عبادة ربك، فقال: سبحان الله أنا أدلك على طريق النجاة وأنت تكافئني بمثل هذا سلمك الله ووفقك، ثم سكت ولم يكلمنا ولم يأخذ شيئاً، فخرجنا من عنده، فلما صرنا على الباب قال هارون: يا فضل إن دللتني على رجل فدلني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين ارتاحت نفسي له.
دخلت عليه امرأته فقالت: يا هذا قد ترى ما نحن فيه من ضيق الحال فلو قبلت هذا المال وتفرجنا به؟ فقال لها: مثلي ومثلكم كمثل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه فلما كبر نحروه وأكلوه ولم يبقَ لهم شيء ـ أي إن أخذت هذا المبلغ من هارون الرشيد انتهيت عنده، يبدو أن هارون سمع حواره مع زوجته ولم يرحل. فقال له: تعال ندخل ثانيةً لعلنا نقنعه بأخذ المال، فلما دخلوا عليه كمحاولة أخيرة جلس ولم يكلم أحداً، فقالت جارية: يا هذا قد آذيتم الشيخ فانصرفا يرحمكم الله. هذا الذي لم يرضَ أن يأخذ شيئاً ارتاحت نفس هارون الرشيد له.