من روائع البيان القرآني
قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7].
تشغل قصة موسى - عليه السلام - مع الطاغيةِ فرعونَ ساحةً واسعة من القصص القرآني؛ لأنها صاحبت موسى مع مولده، وقصة قومه قبل مولده، وصحبته في حياته وما جرى فيها من أحداث، إلى أن أُرسل إلى فرعون وقومه، وما كان من آيات عظيمة أرسلها الله تأييدًا لرسالة موسى؛ لعل فرعون وقومه يؤمنون بالله، لكنهم لم يفعلوا.
ويدخل فرعون التاريخ الإنساني كطاغية رفض كل البراهين، وأخذته العزة بالإثم، حتى لقي الموت والخذلان، ليصبح عبرة من عبر الدهر.
وهذه الآية لقطة من تلك المسيرة التي نجا فيها موسى - بقدر الله - من تدبير فرعون، الذي قضى بقتل كل ذَكر من بني إسرائيل؛ ظنًّا منه أن ذلك ينجيه مما هو كائن، كما أُخبر في نبوءة عرَّافيه.
﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى ﴾: الوحي هنا: إلهام يقيني، لا يخالطه شك بأنه أمر إلهي، واجب الاعتقاد، والنفاذ، والتصديق.
﴿ أَنْ أَرْضِعِيهِ ﴾: وهل تحتاج الأم إلى مَن يأمرها بإرضاع ابنها؟ إنه أمر خاص؛ أي: أرضعيه رضعةً مشبعة تملأ بطنه؛ فهو مقبل على رحلة لن يذوق فيها شيئًا؛ ﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ ﴾ [القصص: 12].
﴿ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ ﴾: الخوف هنا وارد، بل واقع؛ فالجو العام المشهود يوحي به؛ لما يجري في أرض الواقع من فعل فرعون ببني إسرائيل وذريتهم؛ ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ ﴾ [القصص: 4].
﴿ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ﴾: هل النجاة من الخوف عليه، في إلقائه في النهر (الماء الكثير)؟! وما حيلة طفل رضيع في مصارعة الموج وما فيه من شدة، وقوة، وأخطار؟! وهل تطاوع الأم هذا الفعل؟ لكن ما حيلة أم موسى مع أمر ربها - سبحانه وتعالى - وما عليها إلا التنفيذ؟
﴿ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ﴾: وإذا كان الأمر بإلقائه في الماء يرعب أمَّ موسى، ويذهلها عن نفسها، فإن الأمر الإلهي جاء يطمئنها: ولا تخافي عليه من شيء يضيره، ولا تحزني لفراقه، ذلك قبل أن تشتعل مشاعر الخوف والحزن في نفسها.
وتأتيها البشارة تلو البشارة؛ ﴿ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ﴾، إن ابنك سيعود سالمًا إلى أحضانك، لم يمسسه سوء، وقد نجا من الأخطار، ومن القتل.
﴿ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾: وهذه مكافأة عظيمة، وفضل لا يساويه فضل ثقة الله به وتكريمه، فسيكون - إن شاء الله - إنها النبوة، إنها الرسالة.
هذه الآية الكريمة من جوامع الكلم، فقد حوت - كما لاحظ السابقون من المفسرين - أمرين، ونهيين، وبشارتين، في كلمات قليلة موجزة.
ليس ذلك هو وحده وجه البلاغة وروعة البيان في هذه الآية، فإن الإيجاز جاء مع وفاء المعنى، والواقعة المادية (الإرضاع) جاء متناغمًا مع الرحلة المقدرة، والمفارقة بين أجزاء العمل الواحد (النجاة والإلقاء) قائمة، وحذف المشاعر السلبية بالوعد الصادق؛ ﴿ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ﴾ متلاحق، وإثبات بشارات الإسعاد بعد ذلك، والاطمئنان في النفس؛ ليمحو كل آثار تلك الأحداث: "﴿ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ﴾ سالمًا، ﴿ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ نبيًّا مرسلاً.
كل ذلك جاء في سياق واحد متلاحق؛ لتأخذ الأحداث مجراها على إرادة الله وتدبيره - سبحانه وتعالى - ليتم أمره على مراده؛ ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 21]، والله أعلم!
إن الكلماتِ ترسم صورة موحية، مليئة بالحياة والنبض المتسارع في النفس، تهزها هزًّا عنيفًا تارة، وتارة لطيفًا مع الوقائع والأوامر، وبثِّ الطمأنينة في نفس هذه الأم التي تترك وليدها في الماء بكل مخاطرة، ترى ماذا يكون مصيره؟ ولا يمهلها التدبير الإلهي أن تتفاعل مع هذه الهواجس، فتخلص منها، وتلقيها خلف ظهرها، وهي تسمع الخطاب الإلهي: ﴿ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ﴾، فتخبو في صدرها نيران الخوف والفراق، ثم تشعر بالرضا والسعادة والترقب للقاء القريب، ﴿ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ﴾، ليس ذلك وحسب، وإنما ﴿ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾، فلا تملك الأم إلا أن تهدأ في صدرها ونفسها كل تلك المشاعر؛ إيمانًا بوعد الله.