"حُسن الاسمتاع "
أخي الحبيب , اعلم - علمني الله و إياك و جعل الجنًّة منتهى مسعاي و مسعاك - أن من أدب المروءة حسن إصغاء الرجل لمن يحدثه من الإخوان فإن إقباله على محدثه بالإصغاء إليه بالأذن و طرف العين و حضور القلب و إشراقة الوجه يدل على ارتياحه لمجالسته و أنسه بحديثه.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - ( لجليسي عليَّ ثلاثٌ : أن أَرميه بطَرفي إذا أقبل و أن أُوِّسعَ له في الَمجلس إذا جلس , و أن أصغي إليه إذا تحدث )) (2) و قال عمرو بن العاص - رضي الله عنه - (( ثلاثةٌ لا أملّهم : جليسي ما فهم عنّي , و ثوبي ما سترني , و دابّتي ما حملت رحلي )) (3)
و قال الحسن البصري ( إذا جالست فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول , و تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن القول , و لا تقطع على أحد حديثه )) (4) و قال معاذ بن سعد الأعور ( كنت جالساً عند عطاء بن أبي رباح , فحدّث رجل بحديث , فعرّضَ رجلٌ من القومِ في حديثه , و قال : ما هذه الطباع ؟! , إني لأسمع الحديث من الرجل و أنا أعلم به , فأريه كأني لا أحسن شيئاً )) (5) و قال المدائني : ( أوصي خالد بن يحيى ابنه , فقال : (( يا بُنيَّ , إذا حدَّثكَ جليسُكَ حديثاً فأقبل عليه ,و أصغِ إليه , ولا تقل : قد سمعته , و إن كنت أحفظ منه , فإن ذلك يكسبك المحبة و الميلَ إليك )) (6)
و قال إبراهيم بن الجنيد : قال حكيم ٌ لابنه : (( يا بُنَيَّ , تعلم حُسنَ الاستماعِ كما تتعلم حسن الكلام , فإن حسن الاستماع إمهالك المتلكم حتى يفضي إليك بحديثه , و الإقبال بالوجه و النظر , و تركُ المشاركة بحديث أنت تعرفه )) ( 7)
و قال ابنُ المقفّع ( إذا رأيتَ رجلاً يحدث حديثاً قد علمته , أو يخبر خبراً قد سمعته , فلا تشارك فيه , و لا تتعقبه عليه حرصاً على أن يعلم الناس أنك قد علمتهُ , فإن ذلك خفة ٌ و سوء أدب و سخفٌ )) ( و قال أيضاً ( من الأخلاق التي أنت جديرٌ بتركها إذا حدّث الرجل حديثاً تعرفه ألا تُسابقه , و تفتحهُ عليه و تشاركه , حتى كأنك تظهر للناس أنك تريد أن يعلموا أنك مثل الذي يعلم , و ما عليك إلا أن تهنئه بذلك , و تفرده به , و هذا الباب من أبواب البخل , و أبوابه الغامضة كثيرة )) (9 ) و أنشد الخطيب البغدادي في هذا المقام :
ولا تشارك في الحديث أهلهُ ******* و إن عرفتَ أصلهُ و فرعهُ
فعليك َ - أخي الحبيب - أن تحسن الاستماع لمحاورك , : حتى يستكمل حججهُ و براهينهُ , و إن كان ما تسمعه منه شبه الوسواس , فإن كان فيه حقٌ استخلصه , ثم استفد منه , و إن كان فيه خطأٌ , استخرج جذورره و دافعه , و الشبهات التي أدت إليه .
قال الخطيبالبغدادي في ذكر أدب الجدل و المناظرة : (( و إذا وقع له شيىءً في أول كلام الخصم , فلا يعجل بالحكم عليه , فربما كان في آخر كلامه ما يبين أن الغرض بخلاف الواقع له , فينبغي أن يتثبت إلى أن ينقضي الكلام , و بهذا أدب الله تعالى نبيه - صلى الله عليه و سلم - في قوله : { وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْما } [طه: 114] .
و يكون نطقة بعلم و إنصاته بحلم , ولا يعجل إلى جواب , و لا هجم على سؤال , يحفظ لسانه من إطلاقه بما لا يعلم , و من مناظرته فيما لا يفهم , فإنه ربما أخرجه ذلك إلى الخجل و الانقطاع ))
ثم قال ( و ينبغي أن يكون كل واحد من الخصمين مقبلاً على صاحبه بوجهه في حال مناظرته , مستمعاً كلامه إلى أن ينهيه . فإن ذلك طريق معرفته , و الوقوق على حقيقته , و ربما كان في كلامه ما يدل على فساده , و ينبه عواره , فيكون ذلك معونةً له على جوابه )) إلى أن قال : (( و ليتقِ المناظر مداخلة خصمه في كلامه , و تقطيع عليه و إظهار التعجب منه , و ليمكنه من إيراد حجته , لإإنما يفعل ذلك المبطلون , و الضعفاء الذين لا يحصلون )) (10)
و قال إمام الحرمين الجويني في آداب المجادل : (( و عليهما جميعاً أن يصبر كل واحد منهما لصاحبه في نوبته , و إن كان ما يسمعه منه شبه الوسواس , لأنهما متساويان في حق المناوبة , و من لم يصبر منهما لصاحبه , فقد قطع عليه حقه , و متى لم يصبر عليه خصمه , بل داخله بالاعتراض , أو الجواب في نوبته احتلمه ووعظه , فإن أصر عليه قطع مكالمته ))
ثم قال ( و على كل منهما أن يقبل على خصمه الذي يكلمه بوجهه في خطابه , المتكلم في كلامه , والمستمع في استماعه , فإن التفت أو أعرض عنه في الاستماع أو الخطاب و عظه , فإن لم يقبل قطع مناظرته , لأن تركَ الإقبال , و حسن الاستماع يشغل قلب المتكلم والمستمع , فتنقطع عليه مادة الفهم و الخاطر )) ( 11) و قد تجد محاورك يتحدث و في كلامه ما ينبغي أن يستدرك عليه , و يراجع فيه تعليقاً و تصحيحاً , فمن الأفضل أن يكون لديك قلمٌ و ورقةٌ , تسجل عليه ما تود تسجيله , حتى إذا جاء دورك أفضيت بما لديك حسب موقع ورودها .
و من اللطائف :
أن عبد الملك بن مروان استأذن على أمير المؤمنين معاوية في الدخول , فأذن له , ثم سلم عليه و جلس , و بعد أن فرغ من حديثه قام و انصرف , فقال معاوية : (( ما أكمل أدب هذا الفتى !)) فقال بعض الحاضرين (( نعم يا أمير المؤمنين , لقد أخذ بأخلاق أربعة , و ترك أخلاقاً أربعةً : أخذ بأحسن البِشر إذا لقي , و بأحسن الحديث إذا حدَّث ، و بأحسن الاستماع إذا حُدِّث , و بأحسن الوفاء إذا وعد , و ترك مزاح من لا يثق بعقله , و ترك مجالسة من لا يرجع إلى الحق , و ترك مخالطة من لا أدب عنده , و ترك من القول و العمل كل ما يعتذر منه )) (12)
قال الشاعر :
إن أنت جالست الرجال ذوي النهىَ ***** فاجلس إليهم بالكمال مؤدبا
و اسمع حديثهم إذا هم حدثوا ****** و اجعل حديثك _ إن نطقت - مهذبا (13)
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ
(1): من كتاب فن الحوار - أصوله - آدابه - صفات المحاور (( فيصل بن عبده الحاشدي ))
(2) : عيون الأخبار (1/ 307)
(3) : عيون الأخبار ( 1/ 306)
(4) : المنتقى ( ص72)
(5) : ((روضة العقلاء)) ( ص72)
(6) : (( بهجة المجالس )) لابن عبد البر (43/1)
(7) : الفقيه و المتفقه )) (32/2)
( ( الأدب الصغير و الكبير )) ( ص136) (9) : المرجع السابق ( ص168)
(10) ( الفقيه و المتفقه )) (2/31-35 ) (11) : (( الكافية في الجدل )) ( ص533-534)
(12) : (( عيون الأخبار )) (1/307)
(13) : المرجع السابق ( 1/307)