الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد...,
أعلم رعاك الله بأن الغيبة محرمه أشد التحريم بل وصفها الله في كتابه العزيز بأنها كالذي يأكل لحم أخيه ميتا وليس حياً وهذا من أبشع الوصف تحذيراً وتبغيضاً لها ولمن يفعلها من الناس, قال جل في علاه
{ وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ }.
ولتعلم رحمك الله بأن الغيبة محرمة في حق جميع الناس وليس في حق العلماء فقط ولكن تكون اشد لو أنها وقعت على علماء الحق هدانا الله وإياك له ابد الآبدين.
وأني لأعجب من بعض الدعاة ممن يحذرون الناس من هذا الآثم العظيم ولا يبينون أنواعه وان في الغيبة ما هو واجب وان فيها ماليس بمحرم , فقد بيّن سلفنا الصالح بأن الذب عن الدين وتنقيه السنة مما خالطها من أكاذيب المكذبين وبيان سبيل المؤمنين لهو من الجهاد في سبيل الله.
فهذا شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيميه يوضح ما لم يوضحه دعاة اليوم بخصوص التحذير من الشخص بعينه كما جاء عنه في مجموع الفتاوى,
يقول رحمه الله: (وأما الشخص المعين فيذكر ما فيه من الشر في مواضع:
مثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة، أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة؛ فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين، حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين هذا أفضل، فبين أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله؛ إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب؛ فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعاً، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء).انتهى كلامه
ويقول ابن تيميه أسكنه الله الجنة, مبيناً من أنواع الغيبة الجائزة أيضاً:
(منها المظلوم له أن يذكر ظالمه بما فيه، إما على وجه دفع ظلمه أو استيفاء حقه , قال تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم}
ومنها أن يكون على وجه النصيحة للمسلمين في دينهم ودنياهم كما في الحديث الصحيح عن فاطمة بنت قيس لما استشارت النبـي صلى الله عليه وسلم من تنكح؟ وقالت: إنه خطبني معاوية وأبو جهم فقال: «أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء».
وفي معنى هذا نصح الرجل فيمن يعامله، ومن يوكله ويوصي إليه، ومن يستشهده؛ بل ومن يتحاكم إليه. وأمثال ذلك، وإذا كان هذا في مصلحة خاصة فكيف بالنصح فيما يتعلق به حقوق عموم المسلمين: من الأمراء والحكام والشهود والعمال: أهل الديوان وغيرهم؟ فلا ريب أن النصح في ذلك أعظم، كما قال النبـي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة، الدين النصيحة» قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم».
فالنصح واجباً في المصالح الدينية الخاصة والعامة: مثل نقلة الحديث الذين يغلطون أو يكذبون، كما قال يحيـى بن سعيد: سألت مالكاً والثوري والليث بن سعد والأوزاعي عن الرجل يتهم في الحديث أو لا يحفظ؟ فقالوا: بين أمره. وقال بعضهم لأحمد بن حنبل: أنه يثقل علي أن أقول فلان كذا، وفلان كذا. فقال: إذا سكت أنت وسكت أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم؟!)انتهى كلامه
فقد جاء عن النووي في رياض الصالحين قوله: ( اعلم أن الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إلية إلا بها وهو ستة أسباب ).أنتهى كلامه
يقول الشاعر لافظ فوه مبيناً هذه الستة المواضع التي تباح فيها الغيبة:
والقـــــدح ليس بغيبة فـي **** ستةً متظلم ومعرف ومحذر
ولمظهر فسقاً ومستفتياً ومن **** طلب الإعانة في إزالة منكر
يقول ابن كثير في تفسيره عن قوله تعالى ( ولا يغتب بعضكم بعضاً...الايه):
والغيبة محرمة بالإجماع ، ولا يستثنى من ذلك إلا ما رجحت مصلحته، كما في الجرح والتعديل والنصيحة كقوله صلى الله عليه وسلم، لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر: «ائذنوا له بئس أخو العشيرةٰ» وكقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس رضي الله عنها، وقد خطبها معاوية وأبو الجهم: «أما معاوية فصعلوك، وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه» وكذا ما جرى مجرى ذلك.انتهى كلامه
وقد ألف أئمه الهدى من السلف الصالح عده مؤلفات في أنواع الغيبة المباحة منها ما ألفه الإمام الشوكاني صاحب تفسير فتح القدير وهي رسالة طيبه اسمها
(رفع الريبة في ما يجوز وما لا يجوز من الغيبة) , وكذلك الإمام البخاري في صحيحة خصص باباً أسماه (باب مايجوز من اغتياب أهل الريب والفساد).
واليك ما حكاه ابن حجر رحمه الله عن أهل العلم في فتح الباري لما يجوز من الغيبة, قال رحمه الله:
قال العلماء تباح الغيبة في كل غرض صحيح شرعا حيث يتعين طريقا إلى الوصول إليه بها كالتظلم والاستعانة على تغيير المنكر والاستفتاء والمحاكمة والتحذير من الشر ويدخل فيه تجريح الرواة(الرواة هم الدعاة في زماننا فلتتنبه) والشهود وإعلام من له ولاية عامة بسيرة من هو تحت يده وجواب الاستشارة في نكاح أو عقد من العقود وكذا من رأى متفقها يتردد إلى مبتدع أو فاسق ويخاف عليه الاقتداء به وممن تجوز غيبتهم من يتجاهر بالفسق أو الظلم أو البدعة.انتهى كلامه
أما سلفنا الصالح فقد ورد عنهم ما يطيب به الخاطر ويشتد به العزم للتحذير من أهل الأهواء الذين يفتون الناس على أهوائهم ولا يتبعون الدليل من الكتاب أو السنة.
فقد جاء عن الإمام احمد بن حنبل رحمه الله أن رجل وقد كان سمع الإمام احمد يقع في رجلاً ويحذر منه وكان رحمه الله شديداً في ذلك ,
فقد قال في حق الكربيسي : هتكه الله الخبيث , قال الرجل للإمام احمد : لا تغتاب المسلمين , فقال الإمام احمد : يا هذا إنما نحن نغتاب للمسلمين.
وقيل للإمام احمد لما تكلم في أناس وحذر منهم , قيل يا أبا عبدالله أما تخشى أن تكون هذه غيبة ,
فقال رحمه الله أذا سكتُ أنا وسكتُ أنت فمتى يُعرف الصحيح من السقيم.
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
م ن ق ول