《《 تدبر سورة الأعراف 》》
سورة الأعراف (مكية) نزلت بعد سورة (ص) وهي في المصحف بعد سورة الأنعام وعدد آياتها 206.
نزلت السورة في وقت كان الصراع فيه على أشده بين المسلمين والكفار. وبالتحديد في الوقت الذي أمر به النبي ﷺ بالجهر بالدعوة. إنها مرحلة جديدة، مرحلة فيها الإعلان والمواجهة، وقد يخجل البعض أو يخاف الأذية.. أنزلت السورة في هذا الظرف وهذا الجو، لتتحدث عن الصراع بين الحق والباطل وأن هذا الصراع سنّة كونية دائمة ومستمرة منذ خلق الله الخلق إلى نهاية يوم القيامة.
فبدأت السورة بالصراع بين آدم وإبليس مع بدء الخليقة وأتبعته بالحوار بين أهل الجنة وأهل النار، وكأن المعنى: هذه هي نتيجة الصراع: فريق في الجنة وفريق في النار. وبعد ذلك رسمت خطاً بيانياً يظهر الصراع في تاريخ البشرية بين كل نبي وقومه، ويظهر أن نهاية الصراع دائماً هي هلاك الظالمين بسبب فسادهم. وبين كل مقطع من هذه المقاطع تسألك السورة: أين أنت من هذا الصراع؟ حدّد موقفك.
وهذا المحور لمناسب جداً لجو الصحابة في المرحلة المكية كما أنه ينعكس على الناس جميعاً في كل زمان ومكان. ففي كل عصر سيعيش الناس مواقف صراع بين الحق والباطل على مستوى الدول والأمم وعلى مستوى الحياة الشخصية أي بين الإنسان ونفسه.
ربما أنت السبب..!
والهدف الذي تدور حوله أحداث السورة ومعانيها هو ضرورة تحديد الموقف وسط الصراع.. حدد موقفك يا مسلم.. في أي الفريقين أنت؟ لا تكن من المتفرجين.
وهذا المعنى يبدو واضحاً في قصص الأنبياء الواردة في هذه السورة، والتي ركّزت على الفصل بين المؤمنين الذين أنجاهم الله تعالى وبين الكفار، مع عدم ذكر أي فئة سلبية أو متفرجة، لأن الأصل أن يكون للإنسان موقف محدد في حياته. ففي قصة نوح مثلاً نرى أن ختام القصة كان: ]فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَـٰهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ[ (64) وفي قصة هود:
]فَأَنجَيْنَـٰهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ[ (72). وفي قصة لوط: ]وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَن
قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ[ (82) ]فَأَنجَيْنَـٰهُ
وَأَهْلَهُ إِلاَّ ٱمْرَأَتَه[ُ. وفي قصة شعيب: ]قَالَ ٱلْمَلاَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ... فِي مِلَّتِنَا[ (88). وفي قصة صالح: ]قَالَ ٱلْمَلاَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ... لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ[ (75).
وكأن المعنى في هذا كله إما أن تكون مع (الذين آمنوا معه) وإما أن تكون مع (الذين كذبوا بآياتنا) فلا وجود للفئة المتفرجة في هذه القصص.
(فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ)
بداية السورة تعلن هذا المعنى بوضوح]كِتَـٰبٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ[ (2) مطلوب منك الجهر بتعاليم الإسلام، لا تستح من نظر أحد أو انتقاده. فأحياناً من قوة الباطل أو انتشاره قد يخجل البعض من إظهار الحق. لا تخجلي من حجابك ولا يخف مسلم من إيذاء أحد له.. المسلم الحق يحزم أمره ويحسم قضاياه لأن الله قال له في افتتاح السورة]فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ[. هذه الآيات كما أشرنا سابقاً كانت عنواناً لبداية مرحلة الدعوة الجهرية.
الآية الثالثة تلح على نفس المعنى: ]ٱتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء[ فهنا طلب جازم باتباع الحق فوراً بلا تردد أو سلبية أو تطلع للطرق الأخرى.
آدم وإبليس: فدلاهما بغرور
ومنذ بداية البشرية يبدأ الصراع بين آدم وإبليس الآيات (20 - 22)، فكيف كان إغواء إبليس لأبوينا؟ ]فَدَلَّـٰهُمَا بِغُرُورٍ[ (22) أي أن طريقة الإغواء كانت بتركهما في حيرة وعدم استقرار، فكان استعمال كلمة (فدلاهما) لتشبيهها بمن يدلو دلوه في البئر ثم يتركه معلقاً وسطه دون أن يحسم مكانه. ولذلك فإن الإيجابية وحسم الأمر من أقوى جند الحق والسلبية والتردد طريق المعصية وإن كان صاحبهما مؤمناً.
العري: سلاح إبليس
لاحظ تركيز إبليس على نوع من أنواع الإفساد: العري، وهذا واضح في الآيات:
]فَوَسْوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيْطَـٰنُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن
سَوْءتِهِمَا[ (20) فماذا كانت النتيجة ]فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءتُهُمَا...[ (22).
لذلك كان الأمر الإلهي بالستر والتحذير من كل مظاهر كشف العورات: ]يَـٰبَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوٰرِى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا[(26).
]يَـٰبَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ ٱلْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءتِهِمَا...[ (27).
]يَـٰبَنِى ءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ[(31).
تعلّموا يا شباب من هذه السورة، أرأيتم كثرة الآيات المحذّرة؟ تعلّموا ستر العورات وغض الأبصار، تعلّموا يا فتيات العفة والحشمة، واحسموا موقفكن من الحجاب بدون تردد، لأن العري سلاح إبليس منذ بدء الخليقة، وانتشاره يساعد على نشر الرذيلة وسهولة المعصية، لذلك كان التعقيب على قصة آدم قوله تعالى: ]قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ ٱلْفَوٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ...[ (33).
لا ثالث بينهما
وبعد ذلك تقسم السورة الناس إلى صنفين: أهل الجنة وأهل النار، وتأخذك السورة بعيداً إلى يوم القيامة، حتى كأننا نسمع النداءات بين الطرفين: ]وَنَادَى أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَـٰبَ ٱلنَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ ٱلله عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ[ (44).
فهما داران لا ثالث لهما، لذلك تأتي كلمة حاسمة في الآية 46 ]وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ[لتفصل بين الفريقين بشكل نهائي. أما زلت متردداً؟ ألم تحسم موقفك بعد؟ اسمع إذاً نداء الاستغاثة: ]وَنَادَىٰ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ أَصْحَـٰبَ ٱلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱلله قَالُواْ إِنَّ ٱلله حَرَّمَهُمَا عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ[ (50) واختر لنفسك أي المصيرين، وأي الدارين؟!
سبب تسمية السورة بالأعراف
فلماذا سميت السورة بهذا الاسم (الأعراف)؟ يقول تبارك وتعالى:
]وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى ٱلاْعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَـٰهُمْ[ (46) أي بين الجنة والنار يعرفون أهل كل منهما فينادون أصحاب الجنة: ]وَنَادَوْاْ أَصْحَـٰبَ ٱلْجَنَّةِ أَن سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ[(46) ويخافون من النار ]وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَـٰرُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَـٰبِ ٱلنَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ & وَنَادَىٰ أَصْحَـٰبُ ٱلاْعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَـٰهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ[(47-48).
فمن هم أصحاب الأعراف؟ إنهم أناس تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فهم لم يحسموا مواقفهم وأعمالهم في الحياة. ولأن الجزاء من جنس العمل، فهم يوم القيامة يحبسون في مكان عالٍ (يسمى الأعراف) بين الجنة والنار، ليشرفوا على المكانين. والمترددون يشملون أصنافاً كثيرة من الناس (لذلك هناك أعراف كثر وليسوا عرفاً واحداً)، فإياك أن تكون أحدهم.. أخي المسلم بادر إلى اتباع طريق الحق ولا تكن اعرافياً، بل احسم موقفك لأنك قد تحرم حتى من أن تكون مع أصحاب الأعراف في حال سوء الخاتمة والعياذ بالله.
قصص الأنبياء: رسم بياني للصراع عبر التاريخ
وللتأكيد على الرسائل التي تحملها السورة:
1. أن الصراع بين الحق والباطل دائم ولن يتوقف.
2 أن الباطل منهزم لا محالة.
3 أن السبب الأساسي لهزيمة الباطل هو البعد عن الله والفساد بأشكاله المختلفة (الأخلاقي أو الاقتصادي أو الاجتماعي).
تذكر لنا السورة قصصاً لخمسة أنبياء من أنبياء الله ومواجهتهم لأقوامهم. والملاحظ أن هذه القصص قد ذكرت مرات عدة في القرآن، فما الذي يميّزها هنا؟ إنها تخدم هدف السورة في حسم الموقف من الصراع، من خلال:
- إظهار أن عناصر المواجهة بين كل الأنبياء وأقوامهم هي تقريباً نفسها (مع نفس الكلمات أحياناً)، وكل هذا لإثبات قدم الصراع وتكراره مع تغيّر الأشخاص والأمم.
فكانت دعوة الأنبياء كلها واحدة ]يَـٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱلله مَا لَكُم مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ[ (59).
]أُبَلّغُكُمْ رِسَـٰلـٰتِ رَبّى...[ (68) وحتى الحجج]أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ...[(69).
- انتهاء إلى تكذيب الكفار ]إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ[ (60)، ]إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ[ (66).
- التركيز على نهاية الباطل، تحت قاعدة "الجزاء من جنس العمل".
ولاحظ أخي المسلم تعقيب القرآن على هذه القصص:
]وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـٰتٍ مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلاْرْضِ[ (96) فهو يضع كل هذه النماذج ضمن قاعدة كونية: إما إيمان وحسم للموقف واتباع للأنبياء، وإما بأس شديد وعذاب أليم من الله.
وأنت أخي المسلم تندرج تحت هذه القاعدة، فهل ما زلت متردداً؟
إن لم تكن مع الحق فأنت مع الباطل ولو كانت نيتك غير ذلك، لأنك أضعفت أهل الحق.
وإياك أن تقول "أنا فرد ولن أغير شيئاً في معادلة الصراع". فلو كان الحق ينتصر بوجود 100 صادق ناجح، وهم الآن 99 وقد تكون أنت المتمم للمائة، وتقاعست، فأنت إذاً لم تكمل المؤمنين وأنت سبب في تراجعهم.
قصة موسى عليه السلام
وتصل الآيات إلى قصة سيدنا موسى مع فرعون، سحرة فرعون، وبني إسرائيل. قصة من أروع القصص في عرض نماذج الحسم والتردد.
والجدير بالذكر هنا أن قصة سيدنا موسى هي أكثر قصة مذكورة في القرآن على الإطلاق (ذكرت في 29 جزءاً) (يقول النبي: رحم الله أخي موسى، لقد كاد أن يذهب بثلث القرآن). لكن سورة الأعراف هي أكثر السور تفصيلاً لعلاقة موسى بقومه خاصة بعد خروجهم من مصر (فلم تذكر مثلاً حادثة ولادته أو نشأته في قصر فرعون كما في سورة القصص)، ولذلك بدأت بالصراع مباشرة من أول آية ]... فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ[ (103) ]وَقَالَ مُوسَىٰ يٰفِرْعَوْنُ إِنّى رَسُولٌ مّن رَّبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ[(104)، كل هذا لنستفيد من مواقف الحسم والتردد في القصة.
حزم بدأ بسجدة
فعندما أتى السحرة لطلب القرب من فرعون ومواجهة موسى عليه السلام، رأوا الآية الدالة على رسالته، فحسموا موقفهم خلال دقائق وكان حسمهم شديداً وفي منتهى القوة: ]فَوَقَعَ ٱلْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ & فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَٱنقَلَبُواْ صَـٰغِرِينَ &وَأُلْقِىَ ٱلسَّحَرَةُ سَـٰجِدِينَ[ (118-120) بدأ إيمانهم بهذه السجدة المؤمنة وتمسكوا بهذا الإيمان رغم التهديد بالهلاك والتعذيب:]قَالُواْ ءامَنَّا بِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ & رَبّ مُوسَىٰ وَهَـٰرُونَ & قَالَ فِرْعَوْنُ ءامَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ...[ (121-123).
وبعد ذلك يقول لهم فرعون ]لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لاَصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ[ (124) فماذا كان أثر ذلك على موقفهم؟ ]قَالُواْ إِنَّا إِلَىٰ رَبّنَا مُنقَلِبُونَ & وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ ءامَنَّا بِـئَايَـٰتِ رَبّنَا لَمَّا جَاءتْنَا[ (125-126) هكذا في إصرار وعدم تردد رغم تهديد فرعون ووعيده، بل أنهم استمدوا الصبر والتمسوا حسن الخاتمة من صاحب الحق: ]رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ...[ (126).
فساد فرعون
بعد أن رأينا في قصص الأنبياء السابقة أنواعاً مختلفة من الفساد، تأتي قصة موسى وفرعون لترينا قمة في الفساد:
]... قَالَ سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـى نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَـٰهِرُونَ[ (127).
فكان العقاب الرباني متدرجاً لذلك الظالم وقومه:
]فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلْجَرَادَ وَٱلْقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ ءايَـٰتٍ مّفَصَّلاَتٍ...[(133).
فخفّف الله عنهم، لكن ]إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ[(135) فماذا كان العقاب؟
]فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَـٰهُمْ فِي ٱلْيَمّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَـٰفِلِينَ[ (136).
بنو إسرائيل: سلبية وتردّد
وبالمقابل، ترينا الآيات نموذجاً آخر للتردّد وهم بنو إسرائيل، فعندما قال لهم نبيّهم]ٱسْتَعِينُواْ بِٱلله وَٱصْبِرُواْ إِنَّ ٱلارْضَ لله يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[ (128) فماذا كان جوابهم؟
]قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا[ (129).
فردّ عليهم موسى ليعلمهم حسن الظن بالله والذي هو أمر أساسي من متطلبات الحسم:
]قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى ٱلاْرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ[ (129).
فالآيتان (128 - 129) تؤكدان على أن الحزم وعدم التردد
أمران أساسيان في امتحان الاستخلاف على الأرض، وهذا ما لم يفهمه بنو إسرائيل.
حتى في العقيدة
ويظهر بنو إسرائيل في مواقف أخرى توحي أنهم يعيشون بلا غاية ولا هدى حتى في أمور العقيدة. ففي الآية 138 نرى قوله تعالى ]وَجَـٰوَزْنَا بِبَنِى إِسْرءيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ[ لقد كانوا منذ قليل يعبرون البحر، وقد رأوا فرعون وجنده وغرقهم، فماذا كان موقفهم التالي: ]قَالُواْ يٰمُوسَى ٱجْعَلْ لَّنَا إِلَـٰهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ[. هذا السؤال الذي ينمّ عن قمة في الجهل أتى في نفس الآية التي تحكي قصة نجاتهم ليرينا الله تعالى حالة التردد وعدم الثبات عندهم.
(فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا)
كانت أغلب أوامر الله لبني إسرائيل تحثّ على تطبيق أمر الله ودينه بقوة.
ففي الآية (145): ]فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا[.
وفي الآية (171): ]خُذُواْ مَا ءاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ...[.
فكيف كان أخذهم لأوامر الله؟
تركهم موسى وذهب للقاء ربه، فماذا فعلوا؟
]وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ
خُوَارٌ[ (148).
فتنكر عليهم الآيات بشدة:
]أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً ٱتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَـٰلِمِينَ & وَلَمَّا سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ[ (148-149).
فهم يشكون من عدم الوضوح والحزم في تديّنهم وعلاقتهم مع الله.
وبذلك يظهر الفارق واضحاً بين السحرة وبين بني إسرائيل، بين تحدي السحرة لفرعون ]فَٱقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ[ (72) وبين]قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا[ (129).
بين ]قَالُواْ آمَنَّا بِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ[ (121) التي أتت دون تردد من السحرة، وبين ]ٱجْعَلْ لَّنَا إِلَـٰهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ[ (138) التي صدرت من بني إسرائيل رغم المعجزات الكبيرة التي رأوها.
الفِرَق الثلاث
وتأتي مباشرة بعد قصة موسى مع بني إسرائيل قصة أصحاب السبت الآيات (163- 167): وملخصها أن بعض بني إسرائيل احتالوا على شرع الله فارتكبوا جرماً شديداً وهو الصيد في اليوم الذي حرّم الله عليهم العمل فيه (يوم السبت) فاختبرهم الله بإرسال السمك يوم السبت أمام أعينهم بكثرة.. فتحايلوا على الأمر وأخذوا يضعون الشباك في الجمعة ليلاً ويجمعون ما فيها صباح الأحد. فبدأ بعض المؤمنين الإيجابيين في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، حتى يكون لهم حجة عند لقاء الله بأنهم حاولوا الإصلاح، والهداية تأتي من الله.
أما بعض المؤمنين فقد وقفوا موقفاً سلبياً بل أخذوا يعتبون على الذين
كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.]وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ٱلله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ[ (164).
أصبح هناك فرقة عاصية وفرقة إيجابية قامت بواجب الإصلاح وفرقة سلبية لم تتحرك ولم تصلح، فماذا كان مصير كل واحدة من هؤلاء؟
نجاة.. وعذاب.. وإهمال
لم يستجب أصحاب السبت لنصح المؤمنين فأنزل الله بهم العقوبة: ]فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُّوء وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ[ (165).
الفرقة الإيجابية أنجاها الله تعالى من العذاب، والفرقة العاصية أخذها الله تعالى بعذاب بئيس أما الفرقة السلبية التي آثرت موقف المشاهد المتفرج، فقد أهمل القرآن ذكرها واختلف العلماء في ذلك.
- فمنهم من قال أنهم لم يستحقوا أن يذكروا لأنهم كانوا سلبيين فلم يذكر الله لهم مصيراً وسيماهم يوم القيامة كيف يشاء...
- والرأي الثاني يرى أنهم قد دخلوا مع الظالمين وهم معنيون بقوله تعالى ]وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ[ فهم والذين اقترفوا المعاصي سواء في هذا الحكم، لأنهم بقوا حياديين حيال المعصية وسكتوا عنها فأصبحوا بذلك عصاة...
منهم الصالحون ومنهم دون ذلك
ومن روعة القرآن أنه لا يحكي قصة لمجرد القصص، بل يختمها بعبرة وعظة حتى يرسخ في ذهن القارئ المعنى المراد من القصة. لذلك كان التعقيب على قصة موسى وأصحاب السبت واضحاً في بيان عبرة القصة:
]وَقَطَّعْنَـٰهُمْ فِي ٱلاْرْضِ أُمَمًا مّنْهُمُ ٱلصَّـٰلِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذٰلِكَ...[ (168).
هذا كان حال الجيل الأول من بني إسرائيل الذي تاه وتفرق في الأرض: منهم صالحون ومنهم دون ذلك، لكن الجيل الثاني كان فيه أناس سلبيون مترددون ]فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ ٱلْكِتَـٰبَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلاْدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ...[ (169).
وأجمل ختام للسورة آية فيها سجدة. وهي أول سجدة في المصحف،
حتى نذكر الحزم والحسم والعزيمة.. نذكر سجدة السحرة الذين تحدّوا
فرعون بجبروته وظلمه. كما أن الآية تدعونا إلى إظهار الخضوع لله تعالى بشكل عملي لأنّ حركة السجود تنبّه النفس للتطبيق فتزداد استعداداً لحسم موقفها في الحياة.
بهذا المعنى نسجدها: ]إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ[ (206)..