《《تدبر سورة الأنفال》》
بعد أن انتهت أول 10 سور من القرآن، نرى أن معالم المنهج اللازمة للاستخلاف على الأرض قد صارت واضحة، وأن أهداف السور ورسائلها تتكامل أمام ناظري قارئ القرآن:
- أنتم مسؤولون عن هذه الأرض أيها المسلمون، وهذا هو منهجكم (سورةالبقرة).
- أهمية الثبات على هذا المنهج (سورة آل عمران).
- العدل شرط أساسي لضمان الاستخلاف (سورة النساء).
- أهمية الوفاء بالمنهج والعقود التي قطعتموها لتطبيقه (سورة المائدة).
- توحيد الله تعالى في الاعتقاد والتطبيق أمران لازمان في هذا المنهج.
- احسم موقفك أيها المسلم تجاه هذا المنهج.
- قوانين ربنا في النصر مادية وربانية، وهذا من شمول المنهج وواقعيته.
أرأيت كيف تتكامل هذه السور في رسائلها لتكون سلسلة واحدة متماسكة في موضوعاتها؟
سورة الأنفال
سورة الأنفال
سورة الأنفال (مدنيّة)، نزلت بعد سورة البقرة، وهي في ترتيب المصحف بعد سورة الأعراف، وعدد آياتها خمس وسبعون آية.
يوم الفرقان
وقد أنزلت هذه السورة بعد غزوة بدر للتعقيب عليها (لذلك سماها بعض العلماء سورة بدر). وغزوة بدر هي أول معركة في الإسلام، وسماها الله تعالى في هذه السورة بيوم الفرقان، لأنه اليوم الذي فرّق الله به بين الحق والباطل، يوم يمثل فرقاً بين عهدين في تاريخ البشرية: عهد كان الإسلام فيه مستضعفاً وعهد سيكون فيه الإسلام قوياً وله أمة قوية تدافع عنه إلى يومنا هذا. لقد كان يوماً عظيماً في تاريخ البشرية، لذلك نزلت السورة كلها للتعقيب على ذلك اليوم.
ولو كان النصر يقاس بالمقاييس المادية، فإن المسلمين لم يكونوا لينتصروا في ذلك اليوم، لأن عدد المسلمين كان ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ولم يكونوا مهيئين نفسياً أو مجهزين عتاداً للقتال، في حين كان عدد الكفار ما يقرب من ألف مقاتل كامل الجهوزية للحرب.
والجدير بالذكر أنه كان مع المسلمين في هذه المعركة فرسٌ واحد، في حين كان مع المشركين ثلاثمائة فرس. فبالمقاييس المادية كان من المستحيل أن ينتصر المسلمين في هذه المعركة.
سيئات الأبرار
الأنفال معناها الغنائم، وقد سميت السورة باسم هذه الغنائم - الأنفال -.
وللصحابة تعليق لطيف على سورة الأنفال، فإنهم يقولون: فينا نحن معشر أصحاب رسول الله نزلت سورة الأنفال، حين اختلفنا على النفل وساءت فيه أخلاقنا. وليس سوء الخلق الذي يتحدثون عنه هو الذي نعرفه اليوم، ولكن عبروا عن اختلافهم بذلك لعظيم أدبهم وتواضعهم.
قوانين النصر مادية وربانية
إن السورة تتحدث عن القوانين التي يعتمد عليها النصر، وهذا مناسب لجو السورة وسبب نزولها. فبعد أن انتصر المسلمون في بدر نزلت السورة لترسخ للمسلمين الأسباب الكونية للنصر، فهو لا يأتي من قبيل الصدفة ولا العبث، وإنما للنصر قوانين مادية وقوانين ربانية.
وهذا يعني أن للنصر سببين هامين:
1. اليقين بأن النصر من عند الله عز وجل]وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱلله[ (101).
2. الأخذ بالأسباب والسعي الجدي لتقريب موازين القوى مع الأعداء، بل والتفوق عليها إن كان ذلك ممكناً، ووضع الخطط والدراسات وكل ما له تأثير مادي على النصر.
فهذه السورة تحقق مفهوم التوكل على الله، بأن نوقن بأن الله هو الناصر، وأن نبذل كل جهد ممكن لتحقيق هذا النصر من طاقة مادية. ولذلك فإن السورة قد تضمنت قول الله تعالى: ]ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱلله لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ[(53). فالآية تشير إلى أن الفعل في التأثير ليس إلا لله الواحد، ولكن بشرط أن تأخذ بالأسباب ما أمكن. فيجب أن ندرك أن النصر بين أمرين: جهد البشر وعمل القدر - تدبير الله تعالى -.
بعض الناس يظنون أن النصر معجزة ربانية فقط، فتراهم يدعون الله لينصرهم وبعد ذلك يتساءلون عن سبب تأخير النصر. فهم حقيقة لم يفهموا أن هناك أسباباً مادية ينبغي الأخذ بها من تخطيط وجهد وبذل. فلا يكفي الدعاء واللجوء إلى الله مع ترك الأخذ بالأسباب، لأننا بذلك نكون مقصرين في فهمنا لطبيعة ديننا ولسنن الله في هذه الأرض.
وبالمقابل، هناك نوع آخر من الناس يأخذون بالأسباب كلها من وضع الخطط والدراسات وجهد بالليل والنهار وبعد ذلك حين يريدون المقابلة والمقارنة مع قوة الكفار يجدون أنفسهم ضعفاء للغاية، فيظنون أنهم عاجزون عن فعل أي شيء والسبب في ذلك أنهم اعتمدوا على الأسباب المادية فقط ونسوا أن النصر من عند الله.
فالسورة ترشدنا إلى التوازن بين هذين النقيضين: أن نؤمن بتدبير الله أولاً، وأن نبحث عن الشروط المادية لتحقيق النصر.
النصر من عند الله
تبدأ السورة بسؤال: ]يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلانفَالِ[(1)، أي يسألون عن كيفية تقسيم الغنائم.
]يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلانفَالِ قُلِ ٱلانفَالُ لله وَٱلرَّسُولِ فَٱتَّقُواْ ٱلله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ ٱلله وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ[(1).
وتنتقل الآيات بعد ذلك إلى سرد صفات المؤمنين: ]إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱلله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ...[ (2). واللطيف أن الجواب على سؤالهم عن تقسيم الغنائم لم يأت بعد السؤال مباشرةً، إنما جاء الجواب في الآية الواحدة والأربعين أي بعد أربعين آية من السؤال: ]وَٱعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء فَأَنَّ لله خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ...[.
وسبب تأخير الإجابة أنهم حين سألوا السؤال كانوا يريدون المكافأة الدنيوية على النصر، والله علمهم أن النصر أولاً وآخراً هو بتقديره ومن عنده سبحانه وتعالى.
فكان الجواب المبدئي على سؤالهم: ]قُلِ ٱلانفَالُ لله وَٱلرَّسُولِ[ (1)، وليس لكم منها شيء، وذلك من لطف القرآن في التربية في صرف أنظارهم عن الأنفال لترسيخ قوانين النصر أولاً، ثم بعد ذلك تمّ شرح كيفية توزيع الغنائم إلى أن قال لهم في آخر السورة ]فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَـٰلاً طَيّباً[ (69). فالله تعالى رسّخ ما هو أهم وبيّن أن مسألة تقسيم الأنفال هي مسألة فرعية لأنها من المسائل الدنيوية.
إن السورة تنقسم إلى نصفين: النصف الأول يركّز بشدة على أن منزّل النصر هو الله تعالى. والنصف الثاني يتحدث عن الأسباب المادية التي ينبغي الأخذ بها حتى ينزل النصر علينا.
القسم الأول (وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱلله)
وهو يظهر منة الله تعالى وفضله على المؤمنين بالنصر، وذلك من خلال:
1. ترتيب المعركة
قال تعالى: ]كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِٱلْحَقّ وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ لَكَـِّرِهُونَ[(5).
فالكثير من المؤمنين لم يكونوا يريدون القتال، لكن الله تعالى دبّر ذلك ليحقّ الحق:
]وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱلله إِحْدَى ٱلطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ ٱلله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَـٰتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ ٱلْكَـٰفِرِينَ & لِيُحِقَّ ٱلْحَقَّ وَيُبْطِلَ ٱلْبَـٰطِلَ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُجْرِمُونَ[ (7-. إن هذه الآيات لهي غايةٌ في الوضوح، فترتيب المعركة ابتداءً كان بتقدير الله عز وجل.
2. الإعداد النفسي للمعركة
يقول الله تعالى: ]إِذْ يُغَشّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مّنْهُ وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن ٱلسَّمَاء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَـٰنِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ ٱلاْقْدَامَ[ (11).
فأنامهم قبل المعركة وبعد أن استيقظوا من نومهم أنزل عليهم من السماء رذاذاً من المطر لكي يغتسلوا ويتوضأوا ويتنشطوا للقتال. فحتى الإعداد النفسي كان بتقدير من الله عز وجل.
أحد الصحابة يصف هذا الموقف فيقول بأنه حين كان يحرس المسلمين غلب عليه النعاس فنظر فإذا جميع الصحابة يغطون في النوم على الرغم من الخوف الشديد والرهبة التي كانت تحف الموقف، وذلك كله بتقدير من الله تعالى.
3. التجهيز المعنوي للجيش
وليس الإعداد النفسي وترتيب المعركة كانا من الله وحسب، بل إن الحالة النفسية - والتي ينفق الجيوش عليها مبالغ طائلة - كانت أيضاً بتدبيره سبحانه.
إن التجهيز المعنوي الرباني للمسلمين في غزوة بدر يتجلى في قوله تعالى: ]إِذْ يُرِيكَهُمُ ٱلله فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَـٰزَعْتُمْ فِى ٱلاْمْرِ وَلَـٰكِنَّ ٱلله سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ[ (43)]وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ ٱلْتَقَيْتُمْ فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ...[ (44).
فكان المسلمون يرون الكفار قليلاً فلا يخافون وكان المشركون يرون المسلمون قليلاً فيستهترون. نفس الرؤية ونفس المنظر كانا لهما في وقع كل طرف أثر مختلف. فسبحان من يخرج النصر ويهيّء له ويعين عليه.
4. نزول الملائكة
وهذا واضح في قوله تعالى: ]إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ ٱلْمَلَـئِكَةِ مُرْدِفِينَ[ (9).
وكذلك قوله: ]إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلَـئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلاعْنَـٰقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ[ (12).
فمن الذي فعل كل هذا، من هو المالك للأرض الذي يفعل ما يشاء؟ وكيف لا يثق الإنسان بربه وأن النصر من عنده تعالى؟ وكيف يثق المرء بغير الله؟ وكيف يعتمد على غيره؟
5. مكان المعركة وزمانها
تنتقل الآيات إلى ما هو أبعد من العوامل النفسية، فحتى مكان المعركة كان بترتيب من الله فالآية 42 تقول: ]إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ ٱلدُّنْيَا وَهُم بِٱلْعُدْوَةِ ٱلْقُصْوَىٰ وَٱلرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي ٱلْمِيعَـٰدِ[ (42).
فالعدوة الدنيا - حيث كان المسلمون - تتمتع بنوعية خاصة من التراب حيث أن المطر كان عند نزوله يثبّت الرمال تحت أقدام المسلمين مما يسهل حركتهم، وأما في العدوة القصوى فكان المطر يسبب سيولاً عند نزوله مما يعيق حركة جنود الكفار وفرسانهم. إنها قدرة الله تعالى مقدّر النصر وناصر المؤمنين.
6. (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱلله قَتَلَهُمْ(
وتتتابع الآيات ونصل إلى قوله تعالى: ]فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱلله قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱلله رَمَىٰ[ (17). هذه الآية توضح نتيجة المعركة وخط سيرها حتى عند رمي النبي للتراب في وجوههم وقوله "شاهت الوجوه".
لذلك تؤكد الآيات على ضرورة طلب النصر من الله ]وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱلله[ (10)، ولهذا كان النبي r يوم غزوة بدر يدعو ويدعو حتى ظهر بياض إبطيه ووقع الرداء عن ظهره r، فكان أبو بكر رضي الله عنه يقول له هوّن عليك يا رسول الله.
لأن النصر من عند الله فلا بد أن نستجيب لنداء الله تعالى:
]يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ[ (24).
القسم الثاني (وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُم)
1. أهمية الأخذ بالأسباب وأثر ذلك على النصر:
يقول الله تعالى: ]وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ[ (60). إن هذه الآية واضحة جداً في بيان هذا المعنى، فنفس السورة التي تؤكد أن النصر هو من عند الله تعالى وحده، تؤكد أيضاً ضرورة الأخذ بالأسباب. فالتخطيط إلى جانب اللجوء إلى الله هما السببان الرئيسيان في النصر، وهذه السورة تتحدث عن موازين القوى، وتشير إلى أن المعارك لا يجدي بها أن يقوم فرد ليقاتل منفرداً وينتصر على الجيوش الجرارة بحجة أن الله تعالى يقول: ]وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱلله[ (10). إن هذا فهم خاطئ وناقص لدين الله تعالى وسننه التي يدير بها الكون.
والملاحظ أن الإرهاب الذي ذكر في الآية يهدف إلى منع القتال لا إلى سفك الدماء. فالمطلوب هو أن تكون للمسلمين قوة رادعة ترهب أعداءهم فتكون النتيجة وقف القتال. حتى في الحرب نرى الإسلام يدعو إلى السلم (عكس ما يعتقد الكثيرون عن هذا الدين). فالآية تقول بعد ذلك:]وَءاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ٱلله يَعْلَمُهُمْ[ (60)، فهي تشمل إظهار قوة المسلمين أمام كل أعدائهم لردعهم عن القتال. لذلك تأتي الآية التي بعدها مباشرة لتقول:
]وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱلله...[ (61).
2. موازين القوى المادية:
صحيح أن الله يؤيد بنصره من يشاء لكن لا بد من مراعاة موازين القوة والأخذ بالأسباب المادية حتى لا يقول بعض الناس: هناك تأييد رباني بالملائكة فلم الإعداد؟ يقول تعالى: ]يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ حَرّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَى ٱلْقِتَالِ إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَـٰبِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ[(65) ]ٱلئَـٰنَ خَفَّفَ ٱلله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ ٱلله وَٱلله مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ[ (66).
فقوله: ]بِإِذْنِ ٱلله[ فيه إشارة إلى أن الله تعالى هو الناصر وهو الذي يؤيد بنصره من يشاء، وقوله تعالى: ]وَٱلله مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ[إشارة إلى أنه لا بد من الصبر لتحقيق النصر. فسبحان من جمع بين السببين في سورة واحدة.
3. فقه قوانين الحرب:
وتشير الآيات بعد ذلك إلى سبب من أسباب هزيمة المشركين في المعركة، فإضافة إلى كونهم كفار فهم لم يأخذوا بالأسباب المادية التي تجعل النصر حليفهم، وقد أشارت إلى ذلك الآية (65): ]... وَإِن يَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ[ أي لا يفقهون الحق فيتبعوه , ولا يفقهون الأسباب التي تجعل النصر حليفهم ولا يملكون الحنكة والتخطيط الحربي. يا مسلمون، تعلموا من سورة الأنفال سنن الله تعالى وقوانينه وافقهوا الأسباب المادية للنصر.
4. طاعة الله والأخوة في الله:
وتبيّن الآيات بعد ذلك أن هناك سبباً دنيوياً ينبغي تحقيقه ليتحقق النصر، وتوضح ذلك الآية (46): ]وَأَطِيعُواْ ٱلله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَٱصْبِرُواْ إِنَّ ٱلله مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ[.
فالتكاتف وترك التنازع من أهم قوانين وأسباب النصر.
ويقول تعالى: ]وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ ٱلله هُوَ ٱلَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِٱلْمُؤْمِنِينَ & وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى ٱلاْرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ ٱلله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ[ (62-63). فالأخوة هي من الأسباب الرئيسية حتى يحصل هذا النصر للمؤمنين.
5. ترك الرياء والعجب
وذلك واضح في قوله تعالى: ]وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَـٰرِهِم بَطَراً وَرِئَاء ٱلنَّاسِ...[ (47) فهذا عامل مادي آخر إضافي أدى لهزيمة المشركين عندما نحروا الإبل وسكروا وأقاموا الاحتفالات قبل موعد المعركة زهواً ليخيفوا كل العرب، فكان عجبهم بنفسهم سبباً في استخفافهم بعدوهم.
6. صفات المؤمنين إيجابية وعملية:
ونجد آيات كثيرة في هذه السورة توفِّق بين مفهوم التوكّل ومفهوم الأخذ بالأسباب، ولذلك نلاحظ معلومة هامة للغاية، فبداية السورة تذكر صفات المؤمنين وبعد ذكر هذه الصفات يقول تعالى: ]أُولَـئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً[ وفي آخر السورة أيضاً يذكر تعالى صفات المؤمنين في الآية (74) ويعقب عليها بقوله سبحانه وتعالى:]أُولَـئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً[. نفس الكلمات جاءت في أول السورة وفي آخرها مع أنه يوجد فارق في تصنيف هذه الصفات وحقيقتها.
فالصفات التي ذكرت في أول السورة كلها صفات إيمانية، وهي تناسب قوله تعالى:]وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱلله[. فيقول تعالى:]إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱلله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـٰناً وَعَلَىٰ رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ[ (2). فهي صفات إيمانية رقيقة، لأن هذا الجزء من السورة يختص بالجانب الإيماني من أسباب النصر.
وفي آخر السورة - وهو الجزء الثاني والمادي من أسباب النصر والمختص بالأخذ بالأسباب - جاءت صفات المؤمنين بأنهم:]... ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَـٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱلله وَٱلَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً[ (74) فالمؤمنون حقاً هم الذين يجمعون بين الصفات الواردة في أول السورة وآخرها، فهم خاشعون لله عباداً له ومجاهدون في سبيله وناصرون لدينه يعيشون لأجل الإسلام ويأخذون بالأسباب المادية. ولذلك كانت الآية المحورية في السورة هي قوله تعالى: ]يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱلله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[ (45) فأسباب النصر جاءت مجموعة في هذه الآية، فالأمر بالثبات في قوله: ]فَٱثْبُتُواْ[ هو من الأخذ بالأسباب، والأمر بالذكر في قوله: ]وَٱذْكُرُواْ ٱلله كَثِيراً[ هو من اللجوء إلى الله صانع النصر، وختام الآية: ]لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[فالفلاح يكون نزول النصر. وهذه القوانين ثابتة على مر العصور، وهذا واضح في تكرار قوله تعالى: ]كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ[ (52) مرتين للتأكيد على هذا المعنى. فالآية توضِّح أن سبب الهلاك كان كفرهم بالله (السبب الرباني) بينما الآية (54) توضِّح السبب المادي لهلاكهم: الظلم]وَكُلٌّ كَانُواْ ظَـٰلِمِينَ[.
لماذا سميت السورة بالأنفال
إن الأنفال وهي الغنائم هي إشارة للدنيا، والواقع أن المسلمين بعد غزوة بدر اختلفوا ودبت بينهم الشحناء وكادت الأخوة أن تضيع بسبب الدنيا. فالله تعالى من خلال هذه السورة يحذِّر المؤمنين من التنافس على الدنيا فتكون بذلك سبباً للفرقة وضياع الأخوة بين المؤمنين، مما يضيع اكتمال الأسباب المادية والربانية ويسبِّب الهزيمة. لذلك الآيات أمرتهم بإهمال الأنفال تماماً]قُلِ ٱلانفَالُ لله وَٱلرَّسُولِ[ حتى ترسخ أسباب النصر عندهم. فلما رسخ المعنى قسمها في الآية (41) إلى أن نصل إلى الآية (69) لتوضح أن مسألة الأنفال فرعية وتحل لهم ما أخذوا: ]فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَـٰلاً طَيّباً...[.
وأسباب النصر كما ذكرنا هي لجوء إلى الله واخذٌ بالأسباب، ومن الأخذ بالأسباب الأخوة الشديدة ووحدة الصف، فلو ضاعت الأخوة وحلّت الفرقة فإن الهزيمة قادمة لا محالة. فسميت السورة بالأنفال حتى تذكرنا بما يسبب الهزيمة.
نسخ أحكام الميراث
وأخيراً ختمت السورة بنسخ حكم الميراث الذي كان متعاملاً به بين الصحابة وهو أن الأخ يرث أخاه في الله. فجاءت الآية في ختام السورة لتقول: ]وَأُوْلُواْ ٱلارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَـٰبِ ٱلله[ (75) فالتوارث بين المتآخين كان مرحلة مؤقتة قبل غزوة بدر لتعميق معاني الأخوة بين المؤمنين، فلما جاء النصر وكانت الأخوة من أسبابه تحقق انصهار المجتمع لأن النصر يصلح مشاكل نفسية كثيرة في المجتمعات.
هذه سورة الأنفال. فلنحرص جميعاً على فهم قوانين النصر حتى يؤيد الله تعالى هذه الأمة. فلنلجأ إلى الله ولنثق بأنه صانع النصر: ]وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱلله[، ولنأخذ بالأسباب المادية من طلبٍ للعلم وتفوق في حياتنا الاجتماعية والعملية مع الحذر من التعلق بالدنيا وزينتها "الأنفال" حتى يستجيب الله دعاءنا ويعيد العز لهذه الأمة.
ختام معالم المنهج
بعد أن انتهت أول 10 سور من القرآن، نرى أن معالم المنهج اللازمة للاستخلاف على الأرض قد صارت واضحة، وأن أهداف السور ورسائلها تتكامل أمام ناظري قارئ القرآن:
- أنتم مسؤولون عن هذه الأرض أيها المسلمون، وهذا هو منهجكم (سورةالبقرة).
- أهمية الثبات على هذا المنهج (سورة آل عمران).
- العدل شرط أساسي لضمان الاستخلاف (سورة النساء).
- أهمية الوفاء بالمنهج والعقود التي قطعتموها لتطبيقه (سورة المائدة).
- توحيد الله تعالى في الاعتقاد والتطبيق أمران لازمان في هذا المنهج.
- احسم موقفك أيها المسلم تجاه هذا المنهج.
- قوانين ربنا في النصر مادية وربانية، وهذا من شمول المنهج وواقعيته.
أرأيت كيف تتكامل هذه السور في رسائلها لتكون سلسلة واحدة متماسكة في موضوعاتها؟
لذلك بعد أن وضحت معالم المنهج، تأتي الأجزاء العشرة التالية لتقدّم لنا عوامل مساعدة على تحقيق المنهج، ومنها:
- التوبة.
- استشعار نعم الله تعالى (سورة النحل)، والتي من أهمها نعمة الإيمان (سورة إبراهيم).
- الاعتدال والوسطية في الدعوة إلى المنهج (سورة هود).
- الصبر والأمل بنصر الله (سورة يوسف).
بعد أن فهمنا أين نحن من تدبّر آيات ربنا، تعالوا إلى الأجزاء العشرة التالية من القرآن، وإلى المزيد من روائع القرآن وإعجاز
م ن ق و ل