عبودية القلب
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
فقد شرفنا ربنا - عز وجل - بأن نكون عبادًا له في هذه الحياة، فلا ننقاد لغيره من الخلق، وطاعة المخلوقين الواجبة هي تبع لطاعته؛ لأمره بها، وعبوديتنا لربنا منقسمة على القلب والجوارح، وعلى كلٍّ منها عبوديةٌ تخصه.
بعضنا يغفُل أحيانًا عن عبودية القلب، ويقصر عبوديتَه لربه بعمل الجوارح، مع أن عبودية القلب هي الأصل، وعبودية الجوارح تبعٌ لها، فمِن أعمال القلوب الواجبة، المتفق على وجوبها: الإخلاصُ لله في الأعمال، والتوكل عليه، ومحبته، والإنابة إليه، والخوف منه، ورجاؤه، والتصديق بوعده ووعيده، والرضا به ربًّا.
من علامات تحقيق القلب عبوديته لله:
أن تعمل الجوارح وَفق محبوب الله، وإن خالف هواها، فمثلاً حينما يدخل الداخل للمسجد، ربما تدعوه نفسه إلى البحث عن مكان أكثر برودة صيفا.أو أكثر دفئًا شتاء. أو يبحث عما يستند عليه، وهذا قصور في كمال عبودية القلب لله، أما مَن انقاد قلبُه لعبودية ربه، فيختار ميمنة الصف الأول؛ تعبُّدًا لله، وتقديمًا لمحابِّ الله ومحاب رسوله على هوى النفس، فيصدق عليه قول النبي: ((ثلاث مَن كن فيه، وجد بهن حلاوة الإيمان: مَن كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار))؛ رواه البخاري ومسلم ..
من عبودية القلب:
تعلُّقُ القلب بأعمال الخير، ليتقرب إلى ربه بالأعمال الصالحة ، ، فإذا انقضت صلاة، تحين الصلاة التالية وعينه على ساعته: كم بقى من الوقت على الصلاة التالية؟ فقلبُه دائمًا في عبادة ربه، وإن كان بدنه خارج هذه العبادة، ففي حديث أبي هريرة، في السبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ((رجل قلبه معلق في المساجد))؛ رواه البخاري ومسلم ..
من عبودية القلب:
تمنِّى الخير، والعمل على فعل ذلك، وبذل السبب في تحقيق ذلك، فيصرف ماله في وجوه الخير على الفقراء والمحتاجين،
وتتمنى تلك النفوس الزكية لو بنتْ مسجدًا؛ منافسة للآخرين على أبواب الخير، و تتمنى لو نفعت المسلمين بالعلم النافع، والدعوة في سبيل الله...
فعن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((مَن سأل اللهَ الشهادةَ بصدق، بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه))؛ رواه مسلم .... فنيَّةُ المؤمن خير من عمله، فبالنية الحسنة، وتوطين النفس على فعل الخير متى ما قدر عليه، يحصل الثواب والأجر به ما لا يحصل بعمل الجوارح.
من أعمال القلوب:
الشوقُ إلى لقاء النبي - صلى الله عليه وسلم – حين تذكره، وحينما تذكر سيرته، وتمني صحبته، وإدراك الشرف بصحبته، وبذل الغالي لحصول ذلك لو أمكن، فعن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: ((مِن أشد أمتي لي حبًّا: ناسٌ يكونون بعدي، يودُّ أحدهم لو رآني بأهله وماله))؛ رواه مسلم ...
من أعمال القلوب:
الهمُّ الذي يحمله البعض لإخوانه المسلمين، والحزن الذي يهجم على قلبه؛ بسبب ما يصيب إخوانَه المسلمين من نكبات...عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((ما يصيب المسلمَ من نصبٍ ولا وصب، ولا همٍّ ولا حُزْن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكةِ يشاكها، إلا كفَّر الله بها من خطاياه))؛ رواه البخاري ..
من أعمال القلوب:
كراهة المنكر بالقلب، حتى على مَن هو متلبس بالمنكر، فإنكار المنكر بالقلب فرض عين على كل مسلم، أما تغييره باليد واللسان، فهو من فروض الكفايات مع القدره عليه..؛ فعن أبي سعيد، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول: ((مَن رأى منكم منكرًا فليُغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان))؛ رواه مسلم ..
من أعمال القلوب:
محبةُ المسلمين، وتمني الخير لهم، وكراهة حصول المكروه لهم كما نكرهه لأنفسنا، فليس بمؤمن مَن لا يحب لإخوانه المسلمين مِن الخير ما يحب لنفسه، ويكره لهم من الشر ما يكرهه لنفسه؛ عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا يؤمن أحدكم، حتى يحب لأخيه - أو قال: لجاره - ما يحب لنفسه))؛ رواه البخاري ، ومسلم .
من أعمال القلوب:
تطهير القلب تجاه إخواننا المسلمين، فلا غلَّ، ولا حقد، ولا حسد لأحد من المسلمين، وقد امتدح الله الأنصار وأثنى عليهم بمحبتهم لإخوانهم المهاجرين، وعدم حقدهم على المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله، قال تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 9، 10].
وكما أنَّ من أعظم أعمال الخير أعمالَ القلوب، فكذلك أعمال القلوب هي الأخطر، وهي من أعظم أسباب هلاك صاحبها، فالنفاق والرياء والشرك - التي بها الخلود في النار - هي من أعمال القلوب.
فمَن وطن نفسه على معصية الله، وبذل وسعه في طلب هذه المعصية، فحُكمه حكم مَن فعل المعصية سواء بسواء، ولو لم يفعلها، فلم يمنعه من المعصية إلا العجزُ عنها، وقد بذل وسعه في طلبها، ولو قدر عليها لارتكبها، قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم – : ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار))، فقلت: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: ((إنه كان حريصًا على قتل صاحبه))؛ رواه البخاري . ومسلم ...
ويأمرنا ربنا - تعالى – بقوله: ﴿ وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ﴾ [الأنعام: 120]، فيأمرنا بترك الذنوب التي نجترحها بجوارحنا، وبترك باطن الإثم، وهي المعاصي التي من أعمال القلوب، فلنمتثل أمر ربنا، ولنقل: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير، ولنبذل الوسع في إيقاع عبودية الجوارح، وعبودية القلوب على الوجه المحبوب لربنا، المرضي له.