حِينَمَا يَشْتَدُّ سَوَادُ صَفَحَاتِ الأَيَّام، حَتَّى لَتَكَادُ تَخْلُو مِنْ شَيءٍ فِي مَعِنَى الصَّفاء، يَعُودُ التَّارِيخُ حَيًّا فِي كَلِمَاتٍ امْتَزَجَتْ بِلاغَتُها فِي قالِبٍ مِنَ الأَدَب، لِتُوحِي بِلَذَّةِ الأَعْيُنِ وَقُرَّةِ الأَنْفُسِ مِنْ خِلاَلِ مَعَانِيهَا الَّتِي جَابَتْ الزَّمَانَ وَالمَكَان، وَلَمْ تُدْفِنْهَا الرِّمَالُ أَوْ تَنْساهَا لُغَةُ البَيَان...
وَيْكَأَنَّهَا سِحْرُ الأَلْفاظِ وَحِكْمَةُ المَعَانِي امْتَزَجَتْ فِي كَأْسِ الأَدَب، فَانْتَشَرَتْ مِنْهُ رَائِحَةُ حُسْنِ الخُلُق، ثُمَّ مَلأَتْ أَجْوَاءَ طَلَبَةِ العِلْمِ مِنَ الَّذِينَ يَحْفَظُونَ أَدَبَ العَالِمِ وَالمُتَعَلِّم، وَيَرَوْنَ حَقَّ العَالِمِ عَلَى المُتَعَلِّم، فِي زَمَنٍ اخْتلَطَتْ الأَرْيَاحُ وَضَاعَ مَنْ يَشْتَمُّ!
فَلاَ تَكَادُ تَرَى ذَلِكَ إِلاَّ فِي كَتَابٍ قَدْ صَفَعَتْهُ أَغْبِرَةُ الأَيَّام، أَوْ فِي رَجُلٍ قَدِ اخْتَطَفَتْهُ الأَرْضُ وَالرِّمَال، فَهُوَ يَرْقُدُ تَحْتَ التُّرَاب، لَكِنَّ أَلْفاظَهُ تَسِيرُ بِنُورِهَا نَحْوَ أُولِي الأَبْصَارِ وَذَوِي الأَذْوَاق...
هَذَا وَإِنْ اشْتدَّ الأَسَى عَلَى النَّفِسِ، وَبَلَغَ الحُزْنُ مَبْلَغَهُ إلاَّ أَنَّ هُنَاكَ نَفَحَاتٌ تَكْشِفُ سَوَادَ السَّحَاب، وَتَقْطَعُ خِدَاعَ السَّرَاب، وَتُسَرِّي عَنِ النَّفْسَ شَيئًا أَوْ أشيَاءَ، عَبْرَ أَضْوَاءٍ مِنَ التَّارِيخِ أَضَاءَتْ مُذْ خَرَجَتْ مِنْ ثَنَايَا أَصْحَابِهَا وَلاَ تَزَالُ تُضِيءُ إِلَى أَنْ يَشاءَ الله، يُبْصِرُهَا مَنْ يُبْصِرُهَا، وَيَجْهَلُها مَنْ يَجْهَلُهَا...
وَمِنْ تِلْكُمُ الأَضْوَاءِ كَلِمَاتُ ذَلِكُمُ الصَّحَابِيِّ الجَلِيلِ عَمِّ رَسُولِ الله، وَصَاحِبِهِ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاه، وذَلِكَ فِي مَعْرِضِ سُّؤَالِ الرَّجُلِ عَنْ عُمْرِ العَبَّاس-رَضِيَ اللهُ عَنْهَ- بِقَوْلِهِ :" أَأَنْتَ أَكْبَرُ أَمْ رَسُولِ الله؟"
فَأَجَابَ بِقَوْلَتِهِ الَّتِي تَوَّجْتُ بِهَا مَقَالَتِي، وَدَبَّجْتُ بِهَا حِكْمَتِي، :" هُوَ أَكْبَرُ مِنِّي وَأَنَا وُلِدتُ قَبْلَهُ"
هَذِهِ هِيَ القِصَّةُ كَمَا تُقْرَأُ فِي التَّارِيخ، وَكَما ظَهَرَتْ فِي الزَّمَانِ وَالمَكان، فَلْنَقْرأهَا نَحْنُ كَمَا هِيَ فِي مَعَانِي الحِكْمَة، وَلْنَغُصْ فِي غَوْرِ تِلْكُمُ الدِّلالات!!
فَيَا لِهذِهِ البَلاَغَةُ وَحُسْنُ الأَدَب، إِذْ رَسَمَتْ حُرُوفُهَا فِي لَوْحَةٍ مِنَ السِّحْرِ المُبَاح، لِتُجَسِّدَ لَنَا حُبَّ الصَّحَابَةِ لِرَسُولِ الله، وَبَلاَغَةِ العَرَبِ الأَقْحَاح، وَأَدَبِ التِّلْمِيذِ تُجَاهَ مُعَلِّمِهِ سَواءً فِي غَيْبَتِهِ أًَوْ فِي حَضْرَتِه..
وَصَدَقَ قَوْلُ القَائِلِ:" إِنَّ التَّارِيخَ لَيَتَكَلَّمُ بِلُغَةٍ أَوْسَعُ مِنْ أَلْفَاظِه"، وَصَدَقَ قَوْلُ ذَلِكُم الشَّاكِر:" فَأَيُّ مَعْنَىً اهْتَدَى إِلَيْهِ ذَلِكُمُ الصَّحَابِيُّ الجَلِيلُ، ثُمَّ اسْتَوْدَعَهُ هَذِهِ الأَحْرُفَ القَلائِلَ، وَأًَنْفَذَهَا إِلَى أَعْمَاقِ الحَيَاةِ الإِنْسَانِيِّةِ، ثُمَّ سَلَّهَا كَأَنَّهَا أَسِنَّةٌ مَصْقُولَةٌ حِدَادٌ لَهَا بَصِيصٌ يَلْمَعُ فِي ظُلُمَاتِ الحِيرَة"!!
نَعَم! فَإِنَّهَا أَلْفَاظٌ تَسْتَثِيرُ النَّفْسَ كَأَنَّها لُغُزٌ مُحَيِّرٌ، لَكِنَّها سُرْعَانَ مَا تُعَلِّمُ معَانِيهَا قَارئِيهَا حُسْنَ تَخَيُّر الأَلْفاظِ، وَالأَجْوِبَةَ المُسْكِتَةَ المُفْحِمَة، وَالعِبارَاتِ الضَّافِيَةَ الشَّافِيَة، وَأَن تَعْرِفَ لِلكَلِمَةِ قيمَتَهَا، وَللعِبارَةِ وَزْنَهََا، وَللحُروفِ ثَمَنَها، فَحِينَ تَكْتُبُهَا فَكَأَنَّمَا سَلَلْتَ سَيْفَهَا لِتُغْرِسَهُ فَوْقَ صُدُورِ الصَّفَحَات؛ فَتُنِيرَ الطَّرِيقَ للسَّائِرِينَ لرِبِّ الأَرضِ وَالسَّمَوات!!
فَلَوْ انْتَفَضَتِ البَلاغَةُ وَالبَيانُ، لَما رَمَتْ بِمِثْلِ هَذِهِ الأَلْفَاظِ، حاشَا كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ فَهُمَا فَوْقَ البلاَغَةِ وَالبَيان...
وَكَانَ طَبِيعِيًّا أَنْ يَطَّرِدَ التَّارِيخُ بَعْدَهَا، حَتَّى وَلَدَ لَنَا التَّارِيخُ مِثْلَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاس –رَضِيَ اللهُ عَنْه- فَكَانَ حَبْرَ الأُمَّةِ وَتُرْجُمانِ القُرآن، فَرَضِيَ اللهُ عَنِ الوَالِدِ وَالمَوْلُود، وَعَنْ سَائِرِ أَصْحَابِ سَيِّدنا مُحَمَّدٍ المَحْمُود، عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلام...
____________________________________
، الأثر أخرجه ابن عساكر وابن أبي شيبة وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" والحاكم ،