كن صحابيًا.*
وهو المقصود من سؤال:
*هل أنت صحابي؟*
قال لي أحد أصحابي شيئًا غريبًا، يقول: إنني كلما قرأت قصص الصحابة، أو استمعت إليها أصابني اليأس، والإحباط.
قلت: هذا عكس المراد تمامًا، إنما نقرأ سير الصحابة، والصالحين لنتحمس للعمل، لننشط من الفتور، فلِمَ تشعر بهذا الإحساس؟
قال: كلما قرأت عن الصحابة وجدت أعمالًا يستحيل علينا فعلها، فبصراحة حاجة تعقد.
يقول: وجدت إصرارًا على الجهاد، وجدت ثباتا على الإيمان، وجدت عزيمة على صيام، وقيام، وبذل، وعطاء، وجدت مواصلة لأعمال البر، والخير ليل نهار، صيف شتاء، لا يوجد فرق بين مرحلة طفولة، ومرحلة شباب، ومرحلة كهولة أو شيوخة، الجهد كله لله عز وجل، المال كله في سبيل الله، الفكر كله في سبيل الله، الحياة كلها في سبيل الله.
فعندما أجد ذلك أشعر بضعفي الشديد، وبعدي عن طريقهم، فيسيطر عليّ الإحباط، واليأس.
انتهى كلام صاحبي.
قلت لصاحبي:
نصف كلامك أنا معك فيه أقبله، واتفق معك فيه تمامًا، والنصف الثاني اختلف معك فيه اختلافًا جذريًا، فكما تقول فعلا الصحابة جيل فريد حياتهم عجيبة، عطائهم ما انقطع لحظة، ولذلك قيمته عالية جدا وغالية جدا، يكفي أن تسمع إلى ما يقول الله في حقهم إجمالًا:
{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ} [التوبة:100].
ولم يذكر الله عز وجل شرط الإحسان في عمل الصحابة، فقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَار} [التوبة:100].
كلهم على هذه الوتيرة، والذين اتبعوهم شرط لهم الإحسان {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100].
لأن الصحابة السابقون، والمهاجرون والأنصار، كلهم عملوا بإحسان
هذا معلوم ضمنًا لحال الصحابة، فدرجتهم عالية، وغالية عند ربنا سبحانه وتعالى، وعند الرسول، وعند كل المؤمنين، درجة في منتهى الجمال، هذا ما اتفق فيه معك أنهم وصلوا لدرجة عالية جدًا، لكن ما اختلف فيه مع صاحبي هو الشعور بالإحباط، واليأس عند سماع هذه الحكايات، وعند قراءة هذه السير، فبدلا من الإحباط، واليأس، الأفضل أن نشغل أنفسنا بمعرفة كيف سبق السابقون؟ وكيف اللحاق بهم؟
فكر في المسألة بعقلك، ما دام الصحابة ساروا في طريق معروف واضح، وهذا الطريق موصوف لنا، كما وُصف لهم، وذلك في كتاب الله عز وجل، وفي سنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، إذا كان الأمر كذلك فالتعرف على الطريق، والسير فيه يضمن أن نصل إلى ما وصلوا إليه، فمثلا،
لو قلت لك:
امش في هذا الطريق لا تحيد عنه يمينًا أو شمالا، وستجد نفسك في الإسكندرية.
طريق مستقيم من هذه نقطة إلى هذه النقطة يصل بك إلى الإسكندرية، فكل من سار في هذه الوصفة وصل.
فالصحابي مشي في الطريق، ولم يحد يمينا أو شمالا، فوصل إلى ما كان يريد أن يصل إليه، ونحن إذا سلكنا نفس الطريق من غير ما نحيد يمينا أو شمالا سنصل لنفس ما وصل إليه الصحابي، المشكلة أننا كثير ما نحيد يمينا وشمالا، أحيانا تحب أن تستكشف طرق جانبية، فتبعد عن الطريق المستقيم،
قد تفكر أنك أذكى من الشرع، أحيانًا نفكر بهذا التفكير تسطيع أن تأخذ طرق مختصرة فتصل أسرع، بينما الأصل أن الطريق المستقيم، هو أقصر الطرق، وطريق الشرع هو دائمًا الطريق المستقيم من غير يمين ولا شمال، يقول الله عز وجل: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6].
تقولها 17 مرة على الأقل كل يوم في صلاتك، 17 ركعة مفروض عليك أن تقرأ الفاتحة، ليربيك سبحانه وتعالى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].
ودائمًا يوصف الطريق أو الصراط بأنه مستقيم، ومن يحاول أن يأخذ طريقا مختصرا فرعيا من الطريق المستقيم، فلا يصل أبدًا، ومن انحرف ولو درجة لا يرجى له وصول، ومن يرى طريق التربية الذي سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم يرى أنه طريق طويل، فيه دعوة، وابتلاء، وصبر، وكفاح، ولما يجد الطريق طويل يقول:
آخذ طريقًا مختصرًا، سأدخل مباشرة على بدر، أغير بالسيف مثلما غيّر الرسول صلى الله عليه وسلم.
غَيّر في بدر، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم مشي في طريق طويل، قبل بدر، ولكنه يريد أن يسلك الطريق المختصر، وتكون النتيجة لا وصول، ولن يصل لأن الطريق المستقيم هو أقصر الطرق، كمن يحمل الناس على الإيمان قسرًا بالعنف بالزجر بالتخويف، ويقول إن هذا أسرع، وهذا أكثر اختصارًا، بينما طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم نعرفه كلنا هو الرفق، واللين، والبشاشة، والابتسامة، والحب، والمودة، قد تبدوا من أول وهلة أنها أطول، لكن الحقيقة هذه أقصر الطرق إلى القلوب.
الصحابة كانوا يسيرون في الطريق المستقيم لا يمين ولا شمال، هذا الرجل الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أخبرني أمرًا في الإسلام لا أسأل عنه أحد بعدك.
قال صلى الله عليه وسلم: "قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ".
وهذا هو الدين لا يمين ولا شمال، وإلى هذا المعنى لفت النبي صلى الله عليه وسلم الأنظار في حواره الرائع مع حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، حذيفة بن اليمان الذي كان يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الشر مخافة أن يدركه، حوار طويل جدًا، وجميل جدًا، لن نذكره كله وهو في البخاري لمن أراد الرجوع إليه، لكن نقطة مهمة جدًا تخصنا الآن، فبعد أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيأتي زمان على أمتي سيكون فيه الخير ولكن سيكون فيه دخن سأل حذيفة:
وهل بعد ذلك الخير من شر؟
قال: نَعَمْ.
وتفكر في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يصف واقع نعيشه الآن قال: "نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا".
قلت: يا رسول الله صفهم لنا.
من هم هؤلاء الدعاة الذين على أبواب جهنم؟
قال: هُمْ مِنْ بَنِي جِلْدَتِنَا- يعني أنهم مسلمين- وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا.
سبحان الله، دعاة على أبواب جهنم، تجدهم يزينون لك المعاصي، فمنهم من يعمل لتكون مدمنًا للخمر، أو للسجائر، أو المخدرات، ومنهم من يزين في عينيك إضاعة الوقت، وإهدار المال، والبعض يزين في عينيك الرشوة،
وهكذا دعاة على أبواب جهنم، القضية في منتهى الخطورة، نحن نبحث عن النجاة من جهنم، نبحث عن الطريق المستقيم، ولا يوجد غير هذا الطريق، فأي طريق غيره هو باب من أبواب جهنم، الطريق الإسلامي طريق مستقيم وواضح، أما من يسلك طريق الإشتراكية مرة، وطريق الرأسمالية مرة، ويفتح باب العلمانية مرة أخرى، لن يرجى له وصول، نحن هنا نريد أن نتعرف على معالم طريق الصحابة، الطريق المستقيم الذي مشي في الصحابة، لا نريد طرقا مختصرة أو انحرفات، لا نريد أن ندخل في التيه، ونتخبط، كما دخل فيه بنو إسرائيل عندما رفضوا الطريق المستقيم {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:21].
رفضوا، وعاندوا، واستكبروا، واقترحوا خططًا بديلة، وأساليب مختلفة، وكانت النتيجة الدخول في التيه، وبعد أن سلكوا كل الطرق، وجربوها في النهاية لم يدخلوا القرية المقدسة، إلا من حيث أمرهم نبيهم؛ لأنه طريق واحد يوصل للحق، الطريق المستقيم الذي أمر به الأنبياء.
[د.راغب السرجانى]