الحمد لله على الدوام وباستمرار، والصلاة والسلام على نبينا المختار، وعلى آله وصحابه الأخيار، ومن تبعهم وعمل صالحًا عند الاحتضار.
أما بعدُ:
فيختلف اهتمام المحتضرين، فمنهم من انحطت اهتماماته في أسفل الدركات، ومنهم من سمى في العلياء، وارتفع في أعلى المنازل والدرجات.
وإذا كانت النفوس كبارًا تعبت في مرادها الأجسامُ.
هذه نماذج من هؤلاء الكبار من أهل العلياء الذين ناطحوا بهمتهم السماء، ممن تدارس العلم وقيدوا الفوائد وكتبوا المسائل وهم في ساعة الاحتضار، أعرض ما وجدته من هذه القصص المشوقة والسير العطرة، لتكون نبراسا ودفعا لنا لمزيد من الجد والاجتهاد لنيل والتزود من العلم النافع، ويكون قول الإمام أحمد لما سُئِل: إلى متى تطلب العلم؟ فقال: (من المحبرة إلى المقبرة)، شعارًا نرفعه في سيرنا في طريق العلم - الذي هو طريق الجنة - كما رفعه الأخيار.
ولهذا قال بعض السلف: ((اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد)).
ومن هذه السير العطرة:
أخرج مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن نبي الله ﷺ ومعاذ بن جبل رديفه على الرحل قال: ((يا معاذ)).
قال: ((لبيك رسول الله وسعديك)).
قال: ((يا معاذ)).
قال: ((لبيك رسول الله وسعديك)).
قال: ((يا معاذ)).
قال: ((لبيك رسول الله وسعديك)).
قال: ((ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار)).
قال: ((يا رسول الله أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا)).
قال: ((إذا يتكلوا)).
فأخبر بها معاذ عند موته تأثما.
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب ((المحتضرين)) أن عائشة قالت : حضرت أبي وهو يموت ، وأنا جالسة عند رأسه ، فأخذته غشية ، فتمثلت ببيت من الشعر فقلت :
من لا يزال دمعه مقنعا *** فإنه لا بد مرة مدفوق
فرفع رأسه فقال : يا بنية ليس كذلك ، ولكن كما قال الله : { وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ } [ ق : 19].
وأخرج أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) عن محمد بن ثابت البناني قال: ذهبت ألقن أبي وهو في الموت لا إله إلا الله.
فقال: (يا بني دعني فاني في وردي السادس أو السابع).
وأخرج أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) عن فرقدا إمام مسجد البصرة يقول: دخلوا على سفيان الثوري في مرضه الذي مات فيه فحدثه رجل بحديث فأعجبه وضرب يده إلى تحت فراشه فأخرج ألواحا له فكتب ذلك الحديث.
فقالوا له: على هذه الحال منك.
فقال: (إنه حسن إن بقيت فقد سمعت حسنا وإن مت فقد كتبت حسنا).
وقال إبراهيم بن الجراح التميمي القاضي كما في ((الطبقات السنية في تراجم الحنفية)): ((مرض أبو يوسف [القاضي -يعقوب بن إبراهيم الأنصاري]، فأتيته أعوده، فوجدته مغمًى عليه، فلما أفاق قال لي: يا إبراهيم: ما تقول في مسألة؟
قلت: وأنت في هذه الحالة؟
قال: لا بأس بذلك، ندرس، لعله ينجو به ناج!
ثم قال لي: يا إبراهيم: أيها أفضل في رمي الجمار، أن يَرْميَها ماشيًا أو راكبًا؟
فقلت: راكبًا.
فقال: أخطأتَ.
قلتُ: ماشيًا.
قال: أخطأتَ!.
قلت: قل فيها، يرضى الله عنك.
قال: أما ما يوقف عنده للدعاء، فالأفضل أن يرميه ماشيًا، وأما ما كان لا يوقف عنده للدعاء، فالأفضل أن يرميه راكبًا.
ثم قمت من عنده، فما بلغتُ بابَ داره حتى سمعتُ الصُّرَاخَ عليه.
وإذا هو قد مات رحمة الله عليه)) اهـ.
بل جاء عن أبي يوسف عندما مات ابنه فوكل من يجهيزه ويدفنه ليحضر الدرس، روى محمد بن قدامة كما في ((مناقب أبي حنيفة)) قال: ((سمعت شجاع بن مخلد، قال: سمعت أبا يوسف يقول: مات ابن لي، فلم أحضر جهازه ولا دفنه، وتركته على جيراني وأقربائي، مخافة أن يفوتني من أبي حنيفة شيء لا تذهب حسرته عني)) اهـ.
وقال ابنُ أبي حاتم في ((الجرح والتعديل)): ((قال سمعت أبي يقول: مات أبو زرعة مطعونا مبطونا يعرق جبينه في النزع، فقلت لمحمد بن مسلم: ما تحفظ في تلقين الموتى لا اله إلا الله؟
فقال محمد بن مسلم: يروي عن معاذ بن جبل - فمن قبل أن يستتم رفع أبو زرعة رأسه وهو في النزع فقال: روي عبد الحميد بن جعفر عن صالح بن أبي عريب عن كثير بن مرة عن معاذ عن النبي ﷺ: من كان آخر كلامه لا اله إلا الله دخل الجنة.
فصار البيت ضجة ببكاء من حضر)) اهـ.
وقال ابنُ أبي حاتم في ((الجرح والتعديل)): ((باب ما ظهر لأبي من سيد عمله عند وفاته.
حضرت أبي رحمه الله وكان في النزع وأنا لا اعلم فسألته عن عقبة بن عبد الغافر يروي عن النبي ﷺ : له صحبة ؟
فقال برأسه : لا.
فلم أقنع منه فقلت : فهمت عني : له صحبة ؟
قال : هو تابعي .
ثم قال ابنُ أبي حاتم رحمه الله: فكان سيد عمله معرفة الحديث وناقلة الآثار فإن في عمره يقتبس منه ذلك فأراد الله أن يظهر عند وفاته ما كان عليه في حياته)) اهـ.
وأخرج ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) عن القاضي [المعافى بن زكريا النَّهْرَواني] قال: وحكى لي بعض بني الفرات عن رجل منهم أو من غيرهم أنه كان بحضرة أبي جعفر الطبري رحمه الله قبل موته وتوفي بعد ساعة أو أقل منها فذكر له هذا الدعاء عن جعفر بن محمد فاستدعى محبرة وصحيفة فكتبها.
فقيل له: أفي هذه الحال.
فقال: (ينبغي للإنسان أن لا يدع اقتباس العلم حتى يموت).
وقال القاضي عِياض في ((ترتيب المدارك)) في ترجمة أبي بكر محمد بن وسيم بن سعدون الطُّليطلي ((أنه كان رأسًا في كلِّ فن، مُتقدِّمًا فيه ...
ثم قال: وكان رأساً في كل فن متقدماً فيه، من أهل الظرف والأدب، وعلا ذكره، وتقدم في الفتيا. وكان رأساً فيها. وله كتاب في الناسخ والمنسوخ.
ودخل عليه وهو في النزع بعض أصحابه، فناداه فلم يجبه.
فقال الآخر: " وحِيل بينهُم وبينَ ما يشتهون " .
فقال له أبو بكر حين ذلك: نزلت في الكفار وقتها. إنهم كانوا في شكٍ مريب)) اهـ.
وقال عياضٌ في ((المدارك)) -أيضًا- في ترجمة مسرَّة بن مسلم الحَضْرمي: ((ولما احتضر رحمه الله، ابتدأ القرآن، فانتهى في طه، الى قوله تعالى: { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } [طه: 84].
ففاضت نفسه)) اهـ.
وقال الوَلْوَالجيّ كما في ((إرشاد الأريب)): دخلتُ على أبي الرّيحان [محمد ابن أحمد الخُوَارَزْمي الفلكي] وهنو يجود بنفسه، وقد حَشْرج نفسُه، وضاقَ به صدرُه، فقال لي في تلك الحالة: كيف قلت لي يومًا حساب الجدَّات الفاسِدَة [الجدة التي تكون مِن قِبل الأم]؟ فقلت له -إشفاقًا عليه-: أفي هذه الحالةِ؟! قال لي: يا هذا! أُوَدِّعُ الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة ألا يكون خيرًا من أن أُخلِّيها وأنا جاهلٌ بها. فأعدتُ ذلك عليه وحَفِظَ... وخرجتُ من عِنْده، وأنا في الطريق، فسمعتُ الصُّرَاخ)) اهـ.
وقال الفاسي في ((ذيل التقييد في رواة السنن والأسانيد)): ((أحمد بن عبد الله بن عمر بن معطي شهاب الدين المعروف بابن الإمام الجزائري.
سمع على علي بن أبي بكر بن روزبة صحيح البخاري في أربع عشر مجلسا آخرها خامس ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين وستمائة.
وحكى ابن معطي أنه كان قال لهم: في يوم الفراغ اجتهدوا في إكمال هذا الكمال فإنه والله ما بقي غيركم يسمعه علي وتوفي في الليلة المتصلة بذلك اليوم)) اهـ.
وقال الفاسي في ((ذيل التقييد في رواة السنن والأسانيد)): ((أحمد بن أبي طالب بن أبي النعم نعمة بن حسن بن علي بن بيان الدين الدير مقري الصالحي المعمر الاعجوبة شهاب الدين أبو العباس الحجار مسند الدينا.
سمع على الحسن بن المبارك الزبيدي صحيح البخاري بكماله وقيل له فوت ولم يصح ذلك كما ذكر الحافظ أبو الحجاج المزي.
ثم قال:
ومات في الخامس والعشرين من صفر سنة 730 بصالحية دمشق وفي يوم موته قرئ [عليه وله مائة سنة وعشر سنين تقريبا)) اهـ.
وقال صاحب ((الفلاكة والمفلوكون)): ((ابن مالك أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الأندلسي الجياني الملقب جمال الدين، صاحب التصانيف المبسوطة والمختصرة والنظم والنثر، شيخ النحاة في عصره والإمام في اللغة، كان كثير الأشغال والاشتغال، حتى إنه حفظ في اليوم الذي مات فيه خمسة شواهد)) اهـ.
وقال الذهبي في ((معجم الشيوخ)) في ترجمة الصفي الهندي أنه روى له حديثين: ((ليسا هما عندي، قرأتهما عليه ونَفَسُه يُحشرج في الصدر، فتوفي يومئذٍ عفا الله عنا وعنه آمين)) اهـ.
قال احدُ الكُتَّابِ المعاصرين كما في ((موسوعة البحوث والمقالات العلمية)): ((هكذا كانوا !! الموتُ جاثمٌ على رأسِ أحدِهِمْ بكُربِهِ وغُصَصِهِ ، والحشرجةُ تشتدُّ في نفسِهِ وصدرِهِ ، والأغماءُ والغشيانُ محيطٌ بهِ ، فإذا صحا أو أفاق من غشيتِهِ لحظاتٍ ، تساءل عنْ بعضِ مسائلِ العلمِ الفرعيَّةِ أو المندوبةِ ، ليتعلَّمها أو ليعلِّمها ، وهو في تلك الحالِ التي أخذ فيها الموتُ منه الأنفاس والتلابيب .
في موقفٍ نسي الحليمُ سدادهُ *** ويطيشُ فيه النابِهُ البيْطارُ
يا للهِ ما أغلى العلم على قلوبِهمْ !! وما أشغلَ خواطرهُمْ وعقولَهُمْ به !! حتى في ساعةِ النزعِ والموتِ ، لم يتذكروا فيها زوجةً أو ولداً قريباً عزيزاً ، وإنما تذكروا العلم !! فرحمةُ اللهِ تعالى عليهمْ . فبهذا صاروا أئمة في العلمِ والدِّينِ)) اهـ.
بشرى سعادته في الاحتضار أتت *** طلاقة الوجه براقا ومبتسما
هذا ما وقفت عليه، والله أعلم، وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: ليلة الاثنين 27 ربيع الأول سنة 1438 هـ
الموافق لـ: 26 ديسمبر سنة 2016 م