السؤال :
أحيانا أختلي بنفسي في الغرفة العلوية ، وأفتح أشرطة بعض المشايخ المؤثرين ، وعندها أبكي بكاءً شديداً على حال المسلمين اليوم ، وخوفً من الله تعالى . وسؤالي : هل أكون من الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله ؟
الجواب :
الحمد لله
أولا:
يسرنا هذا السؤال وأمثاله مما يرد إلينا ممن هم في بداية مرحلة الشباب ، فلا يزال في الناس خير ، ولا يزال في الأمة خير .
نسأل الله تعالى أن يظلنا وإياك بظله يوم لا ظل إلا ظله.
ثانيا:
صح من أهوال يوم القيامة؛ أن الناس في المحشر يكونون في حر شديد.
عَنْ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنِي الْمِقْدَاد بْن الْأَسْوَدِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ( تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ.
قَالَ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ: فَوَاللهِ! مَا أَدْرِي مَا يَعْنِي بِالْمِيلِ؟ أَمَسَافَةَ الْأَرْضِ، أَمِ الْمِيلَ الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ.
قَالَ: فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا.
قَالَ: وَأَشَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ ) رواه مسلم (2864).
وفي هذا الكرب العظيم يكرم الله جمعا من عباده فيظلهم من هذا الحر الشديد بظل العرش، منهم: من بكى من خشية الله تعالى بعيدا عن أعين الناس .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الإِمَامُ العَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ) رواه البخاري (660) ومسلم (1031).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى :
" قوله: (ذَكَرَ اللَّهَ) أي: بقلبه ، من التذكر . أو : بلسانه ، من الذكر.
(خَالِيًا) من الخلو ، أي : في موضع خالٍ ، لأنه يكون حينئذ أبعد من الرياء .....
قوله : (فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) أي فاضت الدموع من عينيه ... قال القرطبي: وفيض العين بحسب حال الذاكر ، وبحسب ما يُكشف له، ففي حال أوصاف الجلال ، يكون البكاء من خشية الله، وفي حال أوصاف الجمال ، يكون البكاء من الشوق إليه.
قلت: قد خُص في بعض الروايات بالأول؛ ففي رواية حماد بن زيد عند الجوزقي (ففاضت عيناه من خشية الله)، ونحوه في رواية البيهقي . ويشهد له ما رواه الحاكم من حديث أنس مرفوعا: ( من ذكر الله ففاضت عيناه من خشية الله حتى يصيب الأرض من دموعه : لم يعذب يوم القيامة ). " انتهى. "فتح الباري" (2 / 147).
وقد ورد في فضل البكاء من خشية الله تعالى؛ أن صاحبه لا يعذب بالنار.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَا يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَلَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ ) رواه الترمذي (1633) وقال: " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ " وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي" (2 / 227).
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) رواه الترمذي (1639) وصححه الألباني في " صحيح سنن الترمذي" (2 / 230).
ثالثا:
فمن تذكر – وكان خاليا بنفسه- حساب الله تعالى لعباده يوم القيامة وخاف من ذلك الهول فبكت عيناه، فهو موعود بأن يظله الله تعالى يوم لا ظل إلا ظله وموعود بالنجاة من النار.
والله تعالى إذا وعد فلن يخلف وعده، لكن لتحقق هذا الوعد يشترط له شرطان وهما: الإخلاص، ومتابعة السنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وتناول نصوص الوعد للشخص مشروط بأن يكون عمله خالصا لوجه الله، موافقا للسنة.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: ( الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ليقال ، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ). " انتهى. "مجموع الفتاوى" (27 / 474).
فعلى المسلم أن يحاسب نفسه، وهو أعلم بها من غيره من الناس، فلينظر هل حقق هذين الشرطين؟
فلينظر هل حقق الإخلاص في هذا البكاء وهل هو صادق فيه؟
وحري بمن كان كذلك : أن يتفقد حاله وعمله بعد ذلك البكاء، وأن يدله هذا الحال السَّنِيّ ، على العمل للنجاة مما يخشاه من عذاب الله تعالى .
ومن خاف أن يُسأل عن أحوال أمته : فإنه يسعى إلى المساهمة في إصلاح أمته ، بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر، وتعلم العلم النافع ، والصنائع النافعة ، ليفيد بها أمته ويساهم في قوتها، ويحاول أن يطرق ما يمكنه من أبواب الخير والنفع التي تقود إلى صلاح حال الأمة، ولا يقتصر على البكاء ، وهو قادر بمعونة الله تعالى على فعل شيء نافع.
والنصيحة لك ، أيها السائل الكريم : أن تحرص على هذه العبودية الجليلة ؛ أن تخلو بنفسك ، بينك وبين ربك ، وتبكي على خطيئتك ، وتبكي من خشية ربك ، وتبكي شوقا إلى ربك ، وتبكي حزنا على ما أصاب أمتك ؛ ففي ذلك خير كثير ، ومقام جليل ، ولتحرص على الاستقامة ، والثبات عليها ، وأكثر من دعاء الله تعالى بالهداية والتوفيق .