اختلاف القراءات، وأثرها في اختلاف المعاني
السؤال : في علم القراءات تقرأ كلمة "ملكين" في الآية رقم 102 من سورة البقرة بفتح اللام ، وفي قراءة أخرى بكسر حرف اللام ، مما يؤدي إلى اختلاف المعنى ، فكيف يمكن التوفيق بينهما؟ وكيف يمكن أن يكون هناك اختلاف في كتاب الله تعالى ؟
الجواب :
الحمد لله
أولًا:
اختلاف الألفاظ يقع على ثلاثة أنواع :
" أحدها: اختلاف اللفظ ، والمعنى واحد .
والثاني: اختلاف اللفظ والمعنى جميعا ، مع جواز أن يجتمعا في شيء واحد لعدم تضادّ اجتماعهما فيه.
والثالث: اختلاف اللفظ والمعنى مع امتناع جواز أن يجتمعا في شيء واحد لاستحالة اجتماعهما فيه "انتهى من "جامع البيان " للداني (1/ 120).
والاختلاف بين القراءات القرآنية، هو من اختلاف التنوع والتغاير، لا اختلاف التضاد والتناقض، فهذا لا يكون في نصوص الوحي المنزل ، بعضها مع بعض أبدا ؛ فضلا عن أن يكون بين قراءتين ، للفظ واحد ، أو آية واحدة .
وقد قال الله عز وجل : (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) النساء/82 .
قال الإمام الطبري رحمه الله : " يعني جل ثناؤه بقوله : (أفلا يتدبرون القرآن) : أفلا يتدبر المبيتون غير الذي تقول لهم، يا محمد كتاب الله، فيعلموا حجّة الله عليهم في طاعتك واتباع أمرك، وأن الذي أتيتهم به من التنزيل من عند ربهم، لاتِّساق معانيه، وائتلاف أحكامه، وتأييد بعضه بعضًا بالتصديق، وشهادة بعضه لبعض بالتحقيق .
فإن ذلك لو كان من عند غير الله ، لاختلفت أحكامه، وتناقضت معانيه، وأبان بعضه عن فساد بعض " انتهى من "تفسير الطبري" (8/567) .
وهذا شأن القراءات القرآنية ، كما ذكرنا .
يقول ابن تيمية: " ولا نزاع بين المسلمين أن الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها لا تتضمن تناقض المعنى وتضاده؛ بل قد يكون معناها متفقا أو متقاربا .
.... فهذه القراءات التي يتغاير فيها المعنى كلها حق، وكل قراءة منها مع القراءة الأخرى بمنزلة الآية مع الآية ؛ يجب الإيمان بها كلها ، واتباع ما تضمنته من المعنى ، علما وعملا، لا يجوز ترك موجب إحداهما لأجل الأخرى ، ظنا أن ذلك تعارض" انتهى من "مجموع الفتاوى" (13/ 393).
وتعدد القراءات يستفاد منه تعدد المعاني، إذ كل قراءة زادت معنى جديدًا لم تبينه أو توضحه القراءة الأخرى، وبهذا اتسعت المعاني بتعدد القراءات، إذ تعدد القراءات يقوم مقام تعدد الآيات القرآنية .
والاختلاف والتنوع في القراءات القرآنية ، يشبه إلى حدٍ كبير ظاهرة تكرار القصص القرآني، فكل آية أو واقعة تبين معنى جديدًا لم تبينه الآية أو الواقعة السابقة .
ويمكنك أن تنظر هنا، ففيه بحث طويل حول المسألة:
https://goo.gl/TKUTXC
ثانيًا:
تفسير القرآن منه ما هو مجمع عليه، ومنه ما اختلف فيه، وهذا الاختلاف راجع لحكمة الله سبحانه في ابتلاء الإنسان، وبحمد الله تعالى، فإن أكثر اختلاف الأئمة في التفسير راجع لاختلاف التنوع، واختلاف التضاد فيه قليل، وهناك قواعد يحتكم إليها العلماء في فهم كتاب الله سبحانه وتعالى .
يقول ابن تيمية: " الخلاف بين السلف في التفسير قليل، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد " انتهى من "مقدمة في أصول التفسير" (11).
واختلاف "فهم" الآية من كتاب الله تعالى ، والاختلاف في تفسيرها ، بالغا ما بلغ ، ليس هو اختلافا في نفس "كتاب الله" ، بل هو راجع إلى أحوال المختلفين ، وفهومهم ، وما أصابوه من معنى كتاب الله ، والمراد بكلامه سبحانه .
وفي صحيح مسلم (1731) عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ : " قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ:
( .... وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ ، فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ، فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ ؛ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللهِ فِيهِمْ أَمْ لَا ) .
قال الراغب الأصفهاني رحمه الله :
" إن قيل: كيف قال: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)، وما من كلام لعل فيه من الاختلاف ما في القرآن، فما من آية إلا وقد اختلف فيها الناس؟
قيل: لم يعن بالاختلاف ما يرجع إلى أحوال المختلفين، لاختلاف تصورهم لمعناه، أو اختلاف نظرتهم .
ولا الاختلاف الذي يرجع إلى تباين الألفاظ ، والمعنى ، والإِيجاز ، والبسط .
وإنما قصد إلى معنى التناقض، وهو إثبات ما نفى ، أو نفيُ ما أثبت .
نحو أن يقال: زيد خارج، زيد ليس بخارج ، والمخبر عنه ، والخبر ، والزمان ، والمكان = فيهما واحد.
[ وما ] ادعت الملحدة - لعنهم الله - فيه التناقض، من نحو قوله: (لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)، وقوله: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) ؛ فذلك خبران قد اختلفا، إما في الزمان ، أو في المكان ، أو في المخبر عنه، أو في الخبر .
وهذا ظاهر " انتهى من "تفسير الراغب الأصفهاني" (3/1348) .
ثالثًا:
أما قوله تعالى: (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) البقرة/ 102.
فإن القراءة الصحيحة ، المتواترة ، للآية الكريمة أن يكون (الملكين) من الملائكة، بفتح الميم واللام والكاف، وتسكين الياء .
ويمكنك مراجعة معنى الآية في جوابنا رقم: (128543).
وأما القراءة التي ذكرتها، فإنها قراءة شاذة، فقد قرأ الضحاك بن مزاحم: «وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ» - بكسر اللام - أي: داود وسليمان - عليهما السلام – .
وسبب الحكم على هذه القراءة الشذوذ : أنها غير متواترة، والقراءة المتواترة هي قوله تعالى: (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) البقرة/ 102.
انظر: "المحتسب " لابن جني (1/ 101).
ويكون معنى الآية على هذه القراءة، أن " ما " بمعنى: النفي، فيكون نفي من الله تعالى أن يكون قد أنزل السحر على داود وسليمان عليهما السلام .
وإن قيل إن الملكين، غير داود وسليمان، فتكون " ما " غير نافية .
قال ابن عطية: " وقرأ ابن عباس والحسن والضحاك وابن أبزى «الملكين» بكسر اللام، وقال ابن أبزى: هما داود وسليمان، وعلى هذا القول أيضا فـ (ما) نافية.
وقال الحسن: هما عِلجان كانا ببابل ملكين، فـ (ما) على هذا القول غير نافية.
وقرأها كذلك أبو الأسود الدؤلي، وقال: هما هاروت وماروت، فهذا كقول الحسن" انتهى من"المحرر الوجيز"(1/ 186).
وقال ابن عاشور: " وفي قراءة ابن عباس والحسن (الملكين) بكسر اللام ، وهي قراءة صحيحة المعنى ؛ فمعنى ذلك : أن ملكين كانا يملكان ببابل قد علما علم السحر " انتهى من "التحرير والتنوير" (1/ 641).
ويمكن اجتماع القراءتين فيكون المقصود بالملكين بفتح اللام وكسرها، هاروت وماروت، كما جاء في بعض الآثار .
فوصفهما الله بصفتهما الأصلية، التي هي الملائكية .
ووصفهما بصفتهما التي كانا عليها ، حين أنزلا إلى الرض ، وهي أنهما صارا ملكين عل أهل بابل، كما في رواية عند الطبري: (2/ 344) ، وأشار إليه ابن عاشور في كلامه السابق .
وينظر ، لزيادة الفائدة "آثار الشيخ المعلمي اليماني" (2/ 369 - 382).
والله أعلم
موقع الإسلام سؤال وجواب