هل يشرع للإمام استدبار المصلين بعد استقبالهم؟
السؤال : أحد أئمة مسجدنا يصلي بنا الفجر ، ثم يستقبلنا بوجهه مدة ربع ساعة تقريبا وحتى يخرج أغلب المصلين ، ثم يستدبرنا ، ويستقبل القبلة مرة أخرى ، فيذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس قيد رمح ، فهل فعله هذا موافقٌ للسنة ، وإن لم يكن فهل هو جائزٌ شرعاً ؟
الجواب :
الحمد لله
أولاً:
السنة للإمام بعد التسليم من الصلاة أن يستغفر الله ثلاثًا ، ثم يقول : " اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ ، وَمِنْكَ السَّلَامُ ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ " ، ثم يلتفت إلى المصلين ، فيقبل عليهم بوجهه .
ودل على ذلك ما رواه البخاري (845) عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رضي الله عنه قَالَ : " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى صَلاَةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ " .
وروى مسلم (709) عَنِ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ : " كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ ، يُقْبِلُ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ ".
قال ابن القيم رحمه الله : " كان صلى الله عليه وسلم إذا سلم استغفر ثلاثاً ، وقال : ( اللهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ ، ومنكَ السلاَمُ ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ ) ، ولم يمكث مستقبِلَ القِبلة إلا مقدارَ ما يقولُ ذلك ، بل يُسرع الانتقالَ إلى المأمومين ، وكان ينفتِل عن يمينه وعن يساره " .
انتهى من " زاد المعاد" (1/295).
وقال بعض أهل العلم : " كان من عادته - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا سلم تحول عن القبلة ، وانحرف يميناً أو شمالاً ، ولم يمكث مستقبل القبلة ، فإن كان هناك حاجة وضرورة إلى خطاب الناس جلس مستقبلاً لجميع المؤتمين ، وخاطبهم وكلمهم ، وإن لم يكن هناك شيء يتعلق بخطاب القوم ، فتارة جلس منحرفاً يمنة ، بأن يجعل يمينه إلى القوم ويساره إلى القبلة ، وتارة جلس منحرفاً يسرة بأن جعل يساره إلى القوم ويمينه إلى القبلة ، وتارة لا يجلس ، بل يذهب إلى جهة حاجته سواء كانت عن يمينه أو عن شماله " .
انتهى من " مرعاة المفاتيح " (3/ 303) .
وقيل : إن الحكمة من تحوله صلى الله عليه وسلم عن القبلة واستقباله المأمومين هو أن يعلمهم ما يحتاجون إليه . وقيل : ليعلم الداخل أن الصلاة قد انتهت .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : " قِيلَ الْحِكْمَةُ فِي اسْتِقْبَالِ الْمَأْمُومِينَ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ ، وَقِيلَ الْحِكْمَةُ فِيهِ تَعْرِيفُ الدَّاخِلِ بِأَنَّ الصَّلَاةَ انْقَضَتْ إِذْ لَوِ اسْتَمَرَّ الْإِمَامُ عَلَى حَالِهِ لَأَوْهَمَ أَنَّهُ فِي التَّشَهُّدِ مَثَلًا ، وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ : اسْتِدْبَارُ الْإِمَامِ الْمَأْمُومِينَ إِنَّمَا هُوَ لِحَقِّ الْإِمَامَةِ فَإِذَا انْقَضَتِ الصَّلَاةُ زَالَ السَّبَبُ ، فَاسْتِقْبَالُهُمْ حِينَئِذٍ يَرْفَعُ الْخُيَلَاءَ وَالتَّرَفُّعَ على الْمَأْمُومين " .
انتهى من "فتح الباري" (2/ 334).
وبما أن الحكمة من استقبال المأمومين هي إما تعليمهم ما يحتاجون إليه أو ليعلم الداخل أن الصلاة قد انتهت ؛ فإن الاستقبال ينتهي بانتهاء الحكمة منه .
أي إن الإمام إذا انتهى من تعليم المأمومين ما يحتاجون إليه ، أو انقضى الوقت الذي يعرف به الداخل انتهاء الصلاة – وهو القدر الذي تقال فيه أذكار ما بعد الصلاة في العادة - ؛ فحينها يشرع للإمام أن يفعل ما يشاء ، كأن يستقبل القبلة ويذكر الله تعالى ويدعوه ، أو يتحول من موضع صلاته وإمامته إلى مكان آخر في المسجد ، وهو أفضل له ، أو ينصرف من المسجد بالكلية ، إن شاء.
سئل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- : هل الأولى للإمام أن ينصرف بعد الصلاة مباشرة أو ينتظر قليلاً ؟
فأجاب : " الأولى للإمام أن يبقى مستقبل القبلة بقدر ما يستغفر الله ثلاثاً ، ويقول : ( اللهم أنت السلام ، ومنك السلام ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام ، ثم ينصرف إلى جهة المأمومين ).
أما بقاؤه في مكانه : فإن كان يلزم من قيامه تخطي رقاب المأمومين ، فالأولى أن يبقى حتى يجد متسعاً ، وإلا فله الانصراف " انتهى من "مجموع فتاوى ابن عثيمين" (13/239).
ثانيًا:
أما الجلوس بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس وترتفع فهو سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
فعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ : " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسَنًا " . رواه مسلم (670).
ولعل هذا الإمام يريد أن يجلس في ذات المصلى الذي صلى فيه ، حتى تطلع ؛ لذلك يبقى في مكانه وبعد أن ينصرف المصلون يستقبل القبلة .
وفي صحيح البخاري (445) : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( المَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ، مَا لَمْ يُحْدِثْ، تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ ) .
والذي يظهر أنه لا يلزم المصلي أن يبقى في مكانه الذي صلى فيه ، وإنما المقصود أن يظل في المسجد ؛ لما روى الترمذي (586) عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ صَلَّى الغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ ، تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ ) ، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" برقم (3403).
فلم يشترط النبي صلى الله عليه وسلم بقاءه في المكان الذي صلى فيه ، فلو انتقل إلى مكان آخر داخل المسجد ، وجلس يذكر الله تعالى ، شمله الحديث ، وقد نص على ذلك بعض أهل العلم .
قال ابن رجب رحمه الله في "فتح الباري (4/56) : " ورد في فضل من جلس في مصلاه بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، وبعد العصر حتى تغرب الشمس أحاديث متعددة ، وهل المراد بـ ( مُصلاه ) نفس الموضع الَّذِي صلى فِيهِ ، أو المسجد الَّذِي صلى فِيهِ كله مصلى لَهُ ؟
هَذَا فِيهِ تردد .
وفي صحيح مُسْلِم عَن جابر بن سمرة ، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذا صلى الفجر جلس فِي مصلاه حَتَّى تطلع الشمس حسناء .
وفي رِوَايَة لَهُ : كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لا يقوم من مُصلاه الَّذِي يصلي فِيهِ الصبح أو الغداة حَتَّى تطلع الشمس ، فإذا طلعت الشمس قام .
ومعلوم أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يكن جلوسه فِي الموضع الَّذِي صلى فِيهِ ؛ لأنه كَانَ ينفتل إلى أصحابه عقب الصلاة ويقبل عليهم بوجهه ، وخرجه الطبراني ، وعنده : " كَانَ إذا صلى الصبح جلس يذكر الله حَتَّى تطلع الشمس ". ولفظة : ( الذكر ) غريبة .
وفي تمام حَدِيْث جابر بْن سمرة الَّذِي خرجه مُسْلِم : " وكانوا يتحدثون فيأخذون فِي أمر الجَاهِلِيَّة ، فيضحكون ويتبسم .
فهذا الحديث يدل على أن المراد بـ ( مصلاه الذي يجلس فيه ) : المسجد كله ، وإلى هذا ذهب طائفة من العلماء ، منهم : ابن بطة من أصحابنا وغيره " انتهى .
وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم : (170086) ، ورقم : (109794) .
والحاصل :
أن هذا الإمام قد وافق السنة في تحوله بعد السلام واستقباله المصلين ، ووافق السنة بجلوسه في مصلاه بعد الفجر إلى أن تطلع الشمس .
وأما ما يفعله من استقبال القبلة بعد انصراف المصلين ؛ فهو وإن لم ينقل من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إلا أنه لا حرج فيه ، إن شاء الله .
والله أعلم.
هذا الإمام وافق السنة في تحوله بعد السلام واستقباله المصلين ، ووافق السنة بجلوسه في مصلاه بعد الفجر إلى أن تطلع الشمس .
وأما ما يفعله من استقبال القبلة بعد انصراف المصلين ؛ فهو وإن لم ينقل من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إلا أنه لا حرج فيه ، إن شاء الله .
موقع الإسلام سؤال وجواب