السؤال
هل جبريل عليه السلام كان متجسدا في صورة أحد الصحابة ، كما روي عن أنس رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( كان جبرائيل يأتيني على صورة دحية الكلبي )؟ فقد كان دحية رجلاً جميلاً ، وقد تزوج درة بنت أبي لهب بنت عم الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى آله. فسؤالي هو : كيف لملك موكل بالوحي مثل جبريل عليه السلام أن يتزوج ، ويعيش ، ويقاتل ، ويفعل ما يفعله البشر ، ويعيش إلى زمن الدولة الأموية وثم يموت ؟ أم أن المقصد بالحديث أن دحية الكلبي هو صحابي من البشر ، ولكن جبريل عليه السلام كان يتجسد بصورته ، فإن كان هكذا ، فأين يكون دحية الكلبي عندما يتجسد جبريل عليه السلام بصورته؟
نص الجواب
الحمد لله
أولا:
دحية الكلبي هو رجل من الصحابة رضوان الله عليهم، وليس هو جبريل عليه السلام.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" دِحية بن خليفة بن فَرْوة بن فَضالة بن زيد بن امرئ القيس بن الخَزْج بن عامر بن بكر بن عامر الأكبر بن عوف الكلبي :
صحابي مشهور، أول مشاهده – أي غزواته - الخندق، وقيل: أُحُد، ولم يشهد بدرا، وكان يضرب به المثل في حسن الصورة...
وهو رسول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قيصر، فلقيه بحمص أول سنة سبع، أو آخر سنة ست...
وقد شهد دحية – معركة - اليرموك، وكان على كُرْدُوس – أي على مجموعة كبيرة من الفرسان-.
وقد نزل دمشق وسكن المِزَّة، وعاش إلى خلافة معاوية " انتهى من "الإصابة" (3 / 381 – 383).
ثانيا:
ما ورد في مجيء جبريل عليه السلام في صورة دحية رضي الله عنه؛ كما في حديث أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: " أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَعِنْدَهُ أُمُّ سَلَمَةَ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُ ثُمَّ قَامَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ سَلَمَةَ: (مَنْ هَذَا؟)
قَالَتْ: هَذَا دِحْيَةُ، قال فقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: ايْمُ اللَّهِ! مَا حَسِبْتُهُ إِلَّا إِيَّاهُ، حَتَّى سَمِعْتُ خُطْبَةَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ عن جِبْرِيلَ " رواه البخاري (3634) ، ومسلم (2451).
فليس المقصود بهذا أن جبريل يتلبّس بجسم دحية رضي الله عنه ويدخل فيه، وإنما المقصود أنه يتراءى للناس على هيئة رجل يشبه صورة دحية، كما تبيّن ذلك أحاديث أخر؛ من ذلك:
حديث جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( عُرِضَ عَلَيَّ الْأَنْبِيَاءُ، فَإِذَا مُوسَى ضَرْبٌ مِنَ الرِّجَالِ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا صَاحِبُكُمْ - يَعْنِي نَفْسَهُ -، وَرَأَيْتُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا دَحْيَةُ ) رواه مسلم (167).
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ: " وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ " رواه الإمام أحمد في "المسند" (10 / 102)، وصححه محققو المسند.
ومجرد التشابه في الصورة ليس فيه إشكال؛ ولا يعني ذلك – من قريب ، ولا من بعيد – أن جبريل عليه السلام ، صار هو "دحية الكلبي" بشخصه ، ولا أن جبريل عليه : تحول إلى "شخص بشري" ، يأكل ، ويشرب ، ويتزوج .... !!
فهذا كله غلط في فهم المسألة ، وتصورها ، وما زال التشابه يحصل بين صور البشر العاديين ، فيكون شخص شبيها بشخص آخر ، ولا علاقة لأي منهما بالآخر ، ولا يتداخل الشخصان ، ولا يختلطان في الصفات ، ولا الخصائص ... ولا غير ذلك ...
فمجرد "مجيء" جبريل عليه السلام ، في صورة تشبه صورة "دحية الكلبي" : لا يعني : أن هذه الصورة صارت ملازمة له ، بل هي صورة بشرية ، يتراءى فيها ، حتى يتمكن البشر من رؤيته ، والاتصال به ، عليه السلام ...
وليست الصورة ملازمة له ، في كل حالاته ، بل له هيئته الحقيقية ، وصورته التي خلقه الله عليها .
قال الدكتور عمر الأشقر ، رحمه الله :
"رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام على صورته الملائكية التي خلقه الله عليها مرتين، هما المذكورتان في قوله تعالى: (ولقد رآه بالأفق المبين) [التكوير: 23] ، وفي قوله: (ولقد رآه نزلةً أخرى - عند سدرة المنتهى - عندها جنة المأوى) [النجم: 13-15] ، عندما عرج به إلى السموات العلا.
وقد ورد في صحيح مسلم: أن عائشة رضي الله عنها سألت الرسول صلى الله عليه وسلم عن هاتين الآيتين فقال صلى الله عليه وسلم: (إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خُلق عليها غير هاتين المرتين.
رأيته منهبطاً من السماء، سادّاً عِظَمُ خَلْقه ما بين السماء إلى الأرض) [صحيح مسلم (177)] .
وسئلت عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى: (ثم دنا فتدلَّى) [النجم: 8] ، فقالت:
( إنما ذلك جبريل عليه السلام، كان يأتيه في صورة الرجال، وإنه أتاه في هذه المرة في صورته، التي هي صورته، فسدّ أفق السماء ([مسلم (177)] .
وورد في صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود أنه قال: ( رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل له ستمائة جناح ) [البخاري(4856)] .
وقال ابن مسعود أيضاً في قوله تعالى: (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) [النجم: 18] : " أي رفرفاً أخضر قد سدّ الأفق ) [ البخاري(4858)] .
وهذا الرفرف الذي سدّ الأفق هو ما كان عليه جبريل، فقد ذكر ابن حجر أن النسائي والحاكم رويا من طريقهما عن ابن مسعود قال: ( أبصر نبي الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام على رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض ) .
وذكر ابن حجر أن ابن مسعود قال في رواية النسائي: ( رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل له ستمائة جناح قد سدّ الأفق ) .
وفي مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: ( رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته، وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سدّ الأفق. يسقط من جناحه التهاويل [أي: الأشياء المختلفة الألوان]، من الدرر واليواقيت) .
قال ابن كثير في هذا الحديث: " إسناده جيد" .
وقال في وصف جبريل: (إنه لقول رسولٍ كريمٍ * ذي قوةٍ عند ذي العرش مكينٍ * مُّطاعٍ ثم أمينٍ) [التكوير: 19-21] .
والمراد بالرسول الكريم هنا: جبريل، وذي العرش: رب العزة سبحانه. " انتهى ، من "عالم الملائكة الأبرار" (11) .
والله أعلم.
المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب