بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي ما أقسم بالأوقات الفجر والضحى والعصر والليل إلا لبيان أهمية الزمن، والصلاة والسلام على نبينا محمد القائل: ((اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك))، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فالذي ينظر في سير الصالحين وأهل العلم والدين، يلحظ من مميزاتهم حرصهم على أوقاتهم، فتنوعات عبارتهم في الحث على أغنام الأوقات في الأعمال الصالحات، وكذلك التحذير من قتل الوقت وإضاعة الزمان.
قال الوزير ابن هبيرة رحمه الله:
والوقت أنفس ما عُنيت بحفظه *** وأراه أسهل ما عليك يضيعُ
ولهذا تجد كثيرا من العاطلين يضيعون أوقاتهم في فضول النوم والأكل والشرب وغير ذلك.
وكان بعض السلف شحيحا بوقته يحاسب نفسه على الدقائق بل يحاسبها على الثواني التي يقضيها في الأكل، وكان منهم من يغتم على هذا الوقت اليسير الذي يقضه في الأكل، والبعض يبتكر طرقا لتقليل هذا الوقت الذي يهدره في طعامه.
فما كان الأكل من الضروريات كان الوقت المهدر فيه معفو عنه، وما زاد كان من إضاعة الوقت.
قال الإمام النووي رحمه الله في ((المجموع)): ((وينبغي أن يكون حريصا على التعلم، مواظبا عليه في جميع أوقاته ليلا ونهارا، حضرا وسفرا، ولا يذهب من أوقاته شيئا في غير العلم، إلا بقدر الضرورة، لأكل ونوم قدرا لا بد منه، ونحوهما كاستراحة يسيرة لإزالة الملل، وشبه ذلك من الضروريات)).
ولهذا كانت الوصية بسرعة الأكل.
قال السيوطي رحمه الله كما في ((شذرات الذهب)):
حدثنا شيخنا الكناني *** عن أبه صاحب الخطابة
أسرع أخا العلم في ثلاثٍ *** الأكل والمشي والكتابة
وحول الحرص على وقت حتى في الأكل أحببت أن أجمع ما وقفت عليه من سير العلماء والأخيار الذين سطر لنا التاريخ شيئا من حرصهم على أوقاتهم حتى فيما يحتاجونه من أكل وشرب، لعل في هذا ذكرى، وشحذا للهمم.
أخرج أبو نعيم الأصفهاني في ((حلية الأولياء وطبقات الأصفياء)) عن عبيد الله بن شميط قال: سمعت أبي يقول: (اللهم اجعل أحب ساعات الدنيا إلينا ساعات ذكرك وعبادتك، واجعل أبغض ساعاتها إلينا ساعات أكلنا وشربنا ونومنا).
قال الحسن بن الحسين الدارستيني رحمه الله كما في ((سير أعلام النبلاء)): ((سمعت أبا حاتم، يقول: قال لي أبو زرعة: ما رأيت أحرص على طلب الحديث منك.
فقلت له: إن عبد الرحمن ابني لحريص.
فقال: (من أشبه أباه فما ظلم.
قال الرمام: فسألت عبد الرحمن عن اتفاق كثرة السماع له، وسؤالاته لأبيه.
فقال: ربما كان يأكل وأقرأ عليه، ويمشي وأقرأ عليه، ويدخل الخلاء وأقرأ عليه، ويدخل البيت في طلب شيء وأقرأ عليه)).
أخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق) عن أبي الحسن علي بن احمد الخوارزمي بالري يقول: عبد الرحمن بن أبي حاتم إمام ابن إمام قد ربي بين إمامين أبي حاتم وأبي زرعة إمامي هدى قال وسمعت عبد الرحمن يوما يقول: لا يستطاع العلم براحة الجسم.
وقال: كنا بمصر سبع أشهر فلم نأكل فيها مرقة وذلك أنا كنا نغدو بالغدوات إلى مجلس بعض الشيوخ ووقت الظهر إلى مجلس آخر ووقت العصر إلى مجلس آخر ثم بالليل للنسخ والمعارضة فلم نتفرغ نصلح شيئا، وكان معي رفيق خراساني أسمع في كتابه وسمع في كتابي فما أكتب لا يكتب وما يكتب لا أكتب فغدونا يوما إلى مجلس بعض الشيوخ، فقال: هو عليل فرجعنا فرأينا في طريقنا حوتا يكون بمصر يشق جوفه فيخرج منه أصفر فأعجبنا فلما صرنا إلى المنزل حضر وقت مجلس بعض الشيوخ فلم يمكننا إصلاحه، ومضينا إلى المجلس فلم نزل حتى أتى عليه ثلاثة أيام كاد أن يتغير فأكلناه نيئا.
فقيل له: كنتم تعطونه لمن يشويه ويصلحه.
قال: من أين كان لنا فراغ.
وقال ضياء الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عيسى المرادي كما في ((بستان العارفين)): سمعت الشيخ عبد العظيم [المنذري] رحمه الله يقول كتبت بيدي تسعين مجلدة وكتبت سبعمائة جزء كل ذلك من علوم الحديث تصنيف غيره وكتب ذلك من مصنفاته وغيرها أشياء كثيرة قال شيخنا ولم أر ولم أسمع أحدا أكثر اجتهادا منه في الاشتغال كان دائم الاشتغال في الليل والنهار وقال وجاورته في المدرسة يعني بالقاهرة حماها الله بيتي فوق بيته اثني عشر سنة فلم استيقظ في ليلة من الليالي في ساعة من ساعات الليل إلا وجدت ضوء السراج في بيته وهو مشتغل بالعلم وحتى كان في حال الأكل والكتاب والكتب عنده يشتغل فيها)).
وقال عثمان الباقلاني رحمه الله كما في ((تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر)): أبغض الأشياء إلى وقت إفطاري لأني أشتغل بالأكل عن الذكر.
وكان داود الطائي رحمه الله كما في ((تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر)) يشرب الفتيت ولا يأكل الخبز.
فقيل له في ذلك.
فقال: بين أكل الخبز وشرب الفتيت قراءة خمسين آية.
وذكر ابن عقل رحمه الله في ((فنونه)) كما في ((ذيل طبقات الحنابلة)): ((قال حنبلي - يعني نفسه - : أنا أقصرُ بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سفّ الكعك وتحسيه بالماء على الخبزة لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، توفرًا على مطالعة، أو تسطير فائدة، لم أدركها فيه)).
قال الرشيد بن المعلم كما في ((تذكرة الحفاظ)): عذلت الشيخ محيي الدين [النووي] في عدم دخوله الحمام وتضييق العيش في مأكله وملبسه وأحواله، وخوفته من مرض يعطله عن الاشتغال.
فقال: إن فلانًا صام وعبَد الله حتى اخضر جلده وكان يمنع من أكل الفواكه والخيار ويقول: أخاف أن يرطب جسمي ويجلب النوم، وكان يأكل في اليوم والليلة أكلة ويشرب شربة واحدة عند السحر)).
وحكى القاضي شمس الدين الخوئي كما في ((عيون الأنباء في طبقات الأطباء)) عن الشيخ فخر الدين [الرازي] أنه قال: واللّه أنني أتأسف في الفوات عن الاشتغال بالعلم في وقت الأكل، فإن الوقت والزمان عزيز.
وقال عمار بن رجاء كما في ((سير أعلام النبلاء)): سمعت عبيد بن يعيش، يقول: أقمت ثلاثين سنة، ما أكلت بيدي بالليل.
كانت أختي تلقمني، وأنا أكتب.
وكان الخليل بن أحمد الفراهيدي رحمه الله يقول كما في ((الحث على طلب العلم والاجتهاد في جمعه)) : ثقل الساعات على ساعة آكل فيها .
ويقول أبو المعالي الجويني كما في ((طبقات الشافعية الكبرى)): أنا لا أنام ولا آكل عادة وإنما أنام إذا غلبني النوم ليلا كان أو نهارا وآكل إذا اشتهيت الطعام أي وقت كان.
وقال سحنون كما في ((الشفا بتعريف حقوق المصطفى)): لا يصلح العلم لمن يأكل حتى يشبع.
وحكى المالكي كما في ((ترتيب المدارك وتقريب المسالك)) قال: كانت لمحمد بن سحنون، تسعة أسرة. يريد لكل سرير سرية. وكانت له سرية يقال لها أم قدام. فكان عندها يوماً، وقد شغل في تأليف كتاب إلى الليل، فحضر الطعام، فاستأذنته.
فقال لها: أنا مشغول الساعة.
فلما طال عليها، جعلت تلقمه الطعام، حتى أتت عليه. وتمادى هو على ما هو فيه إلى أن أذن لصلاة الصبح.
فقال: شغلنا عنك الليلة يا أم قدام. هات ما عندك.
فقالت قد والله يا سيدي ألقمته لك.
فقال لها: ما شعرت بذلك)).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ((في ((تهذيب التهذيب)): ((قال الحاكم: سمعت أبا الفضل محمد بن إبراهيم، قال: سمعت أحمد بن سلمة - رفيق مسلم في الرحلة من نيسابور إلى بلخ وإلى البصرة - يقول: عقد لمسلم مجلس المذاكرة، فذكر له حديث فلم يعرفه، فانصرف إلى منزله - وكان الوقت ليلا -، وقدمت له سلة فيها تمر، فكان = يطلب الحديث ويأخذ تمرة تمرة، فأصبح وقد فنى التمر! ووجد الحديث! زاد غيره: فكان ذلك سبب موته رحمه الله تعالى)).
وكان محمود بن عبد الرحمن الأصبهاني كما قال الإسنوي رحمه الله كما في ((طبقات المفسرين للداوودي)): ((يمتنع كثيراً من الأكل لئلا يحتاج إلى الشرب، فيحتاج إلى دخول الخلاء فيضيع عليه الزمان)).
وأختم بكلام نفس للإمام ابن القيم رحمه الله في ((إغاثة اللهفان)) قال: ((معرفته أن ربح هذه التجارة سكنى الفردوس والنظر إلى وجه الرب سبحانه وخسارتها دخول النار والحجاب عن الرب تعالى، فإذا تيقن هذا هان عليه الحساب اليوم فحق على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها وخطراتها وخطواتها فكل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا حظ لها يمكن أن يشتري بها كنز من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبد الآباد فإضاعة هذه الأنفاس أو اشتراء صاحبها بها ما يجلب هلاكه: خسران عظيم لا يسمح بمثله إلا أجهل الناس وأحمقهم وأقلهم عقلا وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن : {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا} [ آل عمران : 30 ]))
هذا ما تم جمعه، والله أعلم، وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: يوم الخميس 16 ربيع الأول سنة 1438 هـ
الموافق لـ: 15 ديسمبر سنة 2016 م