متى نبىء إبراهيم عليه السلام؟
السؤال : هل أُمر سيدنا إبراهيم عليه السلام أن يناقش قومه ويدعوهم لعبادة الله ؟ أم أنه ناقشهم بفطرته وبديهته واجتهاد عقله ؟ أو بمعنى آخر متى نزل الوحي على النبي إبراهيم ؟
الجواب :
الحمد لله
أولا:
لم نقف على نص يوضح متى نبئ إبراهيم عليه السلام.
وكل ما يذكر عن عمره لما نظر في الكواكب ، واستدل بها على وحدانية الله تعالى؛ كل هذا من أخبار بني اسرائيل التي لا يمكن الاعتماد عليها لإثبات شيء من هذا .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:" ( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ … ).
يخبر تعالى عن خليله إبراهيم، عليه السلام، أنه آتاه رشده من قبل، أي: من صغره ألهمه الحق والحجة على قومه، كما قال تعالى: ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ) .
وما يذكر من الأخبار عنه في إدخال أبيه له في السرب ، وهو رضيع ، وأنه خرج به بعد أيام، فنظر إلى الكوكب والمخلوقات، فتبصر فيها وما قصه كثير من المفسرين وغيرهم فعامتها أحاديث بني إسرائيل، فما وافق منها الحق ، مما بأيدينا عن المعصوم : قبلناه لموافقته الصحيح، وما خالف شيئا من ذلك رددناه، وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة : لا نصدقه ولا نكذبه، بل نجعله وقفا، وما كان من هذا الضرب منها فقد ترخص كثير من السلف في روايتها، وكثير من ذلك مما لا فائدة فيه، ولا حاصل له مما ينتفع به في الدين. ولو كانت فيه فائدة تعود على المكلفين في دينهم لبينته هذه الشريعة الكاملة الشاملة.
والذي نسلكه في هذا التفسير الإعراض عن كثير من الأحاديث الإسرائيلية، لما فيها من تضييع الزمان، ولما اشتمل عليه كثير منها من الكذب المروج عليهم، فإنهم لا تفرقة عندهم بين صحيحها وسقيمها كما حرره الأئمة الحفاظ المتقنون من هذه الأمة " انتهى من "تفسير ابن كثير" (17 / 347 - 348).
ثانيا:
لكن مناقشة إبراهيم عليه السلام لأهل الشرك والتي قصّها علينا القرآن الكريم ؛ منها ما هو مقطوع بأنه بعد نبوته؛ وهو الأمر المتعلق بمجادلة قومه في عبادتهم الأصنام؛ كما في قوله تعالى:
( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ) مريم/41 - 45.
فسياق هذه الآيات ظاهر أن هذه الدعوة لأبيه كانت بعد نبوته .
وأما الحادثة الأخرى فهي في قوله تعالى:
( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) الأنعام /75 – 79.
فهذه محل خلاف بين أهل العلم في القوم الذين حاججهم؛ وفي زمن محاججته هل قبل نبوته ورسالته أم بعدها؟
لكن الذي يقتضيه سياق الآيات أن القوم الذين حاججهم في عبادة الأصنام هم أنفسهم الذين حاججهم حول عبادة الكواكب؛ لأن قبل هذه الآيات قوله تعالى:
( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ) الأنعام /74.
قال المعلمي رحمه الله تعالى:
" فالظاهر أنَّ نظره عليه السلام في الكواكب : كان بعد إنكاره عبادة الأصنام - كما يدلُّ عليه الترتيب القرآنيُّ -، حيث ذكر إنكاره على أبيه عبادة الأصنام، ثم عقَّبه بقصَّة النظر في الكواكب، وكأنّ أباه كان اعتذر إليه بأنه إنما يعبد الأصنام لأجل الكواكب، فانتقل إلى النظر في الكواكب " انتهى من "آثار الشيخ عبد الرحمن المعلمي" (3 / 679).
ويحتمل أنّ عبادتهم للأصنام كانت من جهة أنهم جعلوها تماثيل أو رموزا لتلك الكواكب التي عبدوها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" والخليل صلوات الله عليه، أنكر شركهم بالكواكب العلوية، وشركهم بالأوثان، التي هي تماثيل وطلاسم لتلك، أو هي أمثال لمن مات من الأنبياء والصالحين وغيرهم " انتهى من "اقتضاء الصراط المستقيم" (2 / 304).
وعلى ذلك ؛ فيكون تمعّنه في الكواكب ومخاطبتها كما في الآية ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ) إلى آخر الآيات؛ كل هذا قاله في مقام المناظرة لهم وإلزامهم الحجة .
قال الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى:
" وأما قوله عليه السلام إذ رأى الكوكب والشمس والقمر: هذا ربي.
فقال قوم: إن إبراهيم عليه السلام قال ذلك محققا، أولَ خروجه من الغار .
وهذا خرافة، موضوعة، مكذوبة، ظاهرة الافتعال، ومن المحال الممتنع أن يبلغ أحد حد التمييز والكلام بمثل هذا، وهو لم ير قط شمسا ولا قمرا ولا كوكبا .
وقد أكذب الله عز وجل هذا الظن الكاذب بقوله الصادق: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ) ؛ فمحال أن يكون من آتاه الله رشده من قبل ، يدخل في عقله أن الكواكب ربه...
والصحيح من ذلك : أنه عليه السلام إنما قال ذلك موبخا لقومه ، كما قال لهم نحو ذلك في الكبير من الأصنام، ولا فرق ؛ لأنهم كانوا على دين الصابئين، يعبدون الكواكب ويصورون الأصنام على صورها وأسمائها في هياكلهم، ويعيدون لها الأعياد، ويذبحون لها الذبائح، ويقربون لها القرب والقرابين ، ويقولون: إنها تعقل وتدبر وتضر وتنفع ويقيمون لكل كوكب منها شريعة محدودة، فوبخهم الخليل عليه السلام على ذلك...
ومعاذ الله أن يكون الخليل عليه السلام أشرك قط بربه...
وبرهان قولنا هذا : أن الله تعالى لم يعاتبه على شيء مما ذكر، ولا عنفه على ذلك، بل صدقه تعالى بقوله: ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ) " انتهى من "الفصل في الملل والأهواء والنحل" (4 / 17).
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله :
" والحق أن إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، كان في هذا المقام مناظرا لقومه، مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام .
فبين في المقام الأول ، مع أبيه : خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية، التي هي على صورة الملائكة السماوية، ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم الذين هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه، وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته، ليشفعوا لهم عنده في الرزق والنصر، وغير ذلك مما يحتاجون إليه.
وبين في هذا المقام : خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل، وهي الكواكب السيارة السبعة المتحيرة، وهي: القمر، وعطارد، والزهرة، والشمس، والمريخ، والمشترى، وزحل، وأشدهن إضاءة وأشرقهن عندهم الشمس، ثم القمر، ثم الزهرة.
فبين أولا أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية؛ لأنها مسخرة مقدرة بسير معين، لا تزيغ عنه يمينا ولا شمالا ولا تملك لنفسها تصرفا، بل هي جرم من الأجرام خلقها الله منيرة، لما له في ذلك من الحكم العظيمة، وهي تطلع من المشرق، ثم تسير فيما بينه وبين المغرب حتى تغيب عن الأبصار فيه، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال. ومثل هذه لا تصلح للإلهية.
ثم انتقل إلى القمر ، فبين فيه مثل ما بين في النجم. ثم انتقل إلى الشمس كذلك.
فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة ، التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار، وتحقق ذلك بالدليل القاطع ؛ {قال يا قوم إني بريء مما تشركون} أي: أنا بريء من عبادتهن وموالاتهن، فإن كانت آلهة، فكيدوني بها جميعا ثم لا تنظرون، {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} ، أي: إنما أعبد خالق هذه الأشياء ومخترعها ومسخرها ومقدرها ومدبرها، الذي بيده ملكوت كل شيء، وخالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه، كما قال تعالى: {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} [الأعراف: 54] .
وكيف يجوز أن يكون إبراهيم [الخليل] ناظرا في هذا المقام، وهو الذي قال الله في حقه: {ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين * إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} الآيات [الأنبياء: 51، 52] ، وقال تعالى: {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين * شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم * وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين * ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} [النحل: 120 -123] ، وقال تعالى: {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} [الأنعام: 161] ... " انتهى من "تفسير ابن كثير" (3/292) .
ثم ذكر رحمه الله وجوها أخرى في تصحيح أن المقام كان مقامة مناظرة من إبراهيم عليه السلام لقومه ، وبيان بطلان ما هم عليه ، ولم يكن مقام نظر منه واستدلال على حق كان غائبا عنه .
وقال الشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" قوله: ( هَذَا رَبِّي )، في المواضع الثلاثة محتمل لأنه كان يظن ذلك، كما روي عن ابن عباس وغيره، ومحتمل لأنه جازم بعدم ربوبية غير الله، ومراده هذا ربي في زعمكم الباطل، أو أنه حذف أداة استفهام الإنكار، والقرآن يبين بطلان الأول، وصحة الثاني.
أما بطلان الأول: فالله تعالى نفى كون الشرك الماضي عن إبراهيم في قوله: ( وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ، في عدة آيات، ونفي الكون الماضي، يستغرق جميع الزمن الماضي، فثبت أنه لم يتقدم عليه شرك يوما ما.
وأما كونه جازما موقنا بعدم ربوبية غير الله، فقد دل عليه ترتيب قوله تعالى: ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي ) إلى آخره، " بالفاء" على قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ )؛ فدل على أنه قال ذلك موقنا مناظرا ، ومحاجا لهم، كما دل عليه قوله تعالى: ( وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ) الآية، وقوله: ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ) الآية، والعلم عند الله تعالى " انتهى من "أضواء البيان" (2 / 236 - 237).
فيتحصّل من هذا أن هذه المجادلة لقومه في عبادتهم الكواكب ، وقعت أيضا بعد نبوته ورسالته عليه السلام.
والله أعلم.
موقع الإسلام سؤال وجواب