نبي الله موسى عليه السلام الجزء الثالث
الرحلة إلى الأرض المقدسة :
58- سار موسى بقومه في اتجاه بيت المقدس ، أراد الله سبحانه وتعالى أن يتم نعمته على بني إسرائيل فقال لهم موسى عليه السلام : يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ، عندما سمع بنو إسرائيل ذلك ، شعروا بالخوف من العمالقة الذين يسكنون تلك الأرض ، قالوا خائفين :يا موسى ان فيها قوماً جبّارين ونحن لن ندخلها حتى يخرجوا منها ، اطرد منها العمالقة لكي ندخل تلك المدينة ، فإذا خرجوا منها فإننا سوف ندخلها .
59- من بين تلك الألوف نهض رجلان فقط وقالا : انكم إذا حاصرتم المدينة ودخلتم بوابتها ، فإنكم سوف تنتصرون ، فتوكلوا على الله ، ولكن بني إسرائيل سيطر عليهم الخوف فقالوا :يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ماداموا فيها ، ثم قالوا له :فاذهب أنت وربّك فقاتلا انها هاهنا قاعدون !
شعر موسى بالحزن فرفع رأسه إلى السماء وقال :يا ربّ إنّي لا أملك إلاّ نفسي وأخي ، فاحكم بيننا وبين القوم الفاسقين . وغضب الله على بني إسرائيل بسبب إيذائهم موسى عليه السلام ، وبسبب عنادهم وتمرّدهم .
التيه :
60- أصدر الله تعالى حكمه على هذا الجيل الذي فسدت فطرته من بني إسرائيل ، كان الحكم هو التيه أربعين عاماً ، حتى يموت هذا الجيل أو يصل إلى الشيخوخة ، ويولد بدلاً منه جيل آخر يستطيع أن يقاتل وينتصر ، وبدأت أيام التيه ، بدأ السير في دائرة مغلقة ، تنتهي من حيث تبدأ ، وتبدأ من حيث تنتهي ، بدأ السير إلى غير مقصد ، ليلاً ونهاراً .
قصة البقرة :
61- في تلك المدّة من الزمن وهي فترة التيه وقعت بعض الحوادث منها ما حدث ذات يوم أنه وقعت جريمة قتل في الليل ، وقام القاتل بحمل القتيل وطرحه في الطريق ، واختصم أهله ولم يعرفوا قاتله ، وحين أعياهم الأمر لجئوا لموسى ليلجأ لربه ، ولجأ موسى لربه فأمره أن يأمر قومه أن يذبحوا بقرة ، وكان المفروض هنا أن يذبح القوم أول بقرة تصادفهم ، ولكنهم اتهموا موسى بأنه يسخر منهم ، واستعاذ موسى بالله أن يكون من الجاهلين ويسخر منهم ، أفهمهم أن حل القضية يكمن في ذبح بقرة.
62- أخذ بنو إسرائيل يتساءلون : أهي بقرة عادية كما عهدنا من هذا الجنس من الحيوان؟ أم أنها خلق تفرد بمزية ، فليدع موسى ربه ليبين ما هي ، ويدعو موسى ربه فيزداد التشديد عليهم ، وتحدد البقرة أكثر من ذي قبل ، بأنها بقرة ليست مسنة ولا صغيرة ، وإنما هي متوسطة بينهما ، فعادوا إلى جدالهم قائلين : ادع لنا ربك يوضح لنا لونها ، قال: إنه يقول : إنها بقرة صفراء شديدة الصُّفْرة ، تَسُرُّ مَن ينظر إليها.
63- هكذا حُددت البقرة بأنها صفراء ، ورغم وضوح الأمر، فقد عادوا إلى المراوغة ، فشدد الله عليهم ، عادوا يسألون موسى أن يدعو الله ليبين ما هي ، فإن البقر تشابه عليهم ، وحدثهم موسى عن بقرة ليست معدة لحرث ولا لسقي ، سلمت من العيوب ، صفراء لا شية فيها بمعنى خالصة الصفرة ، فبدءوا بحثهم عن بقرة بهذه الصفات الخاصة ، وأخيراً وجدوها عند يتيم فاشتروها وذبحوها ، وقد قاربوا ألا يفعلوا ذلك لعنادهم .
64- أمسك موسى بجزء من هذه البقرة (وقيل لسانها) وضرب به القتيل فنهض من موته ، وأخبر عن قاتله ، ثم عاد إلى الموت ، وشاهد بنو إسرائيل معجزة إحياء الموتى أمام أعينهم ، وانكشف غموض القضية التي حيرتهم زمناً طال بسبب لجاجتهم وتعنتهم .
قصة موسى والعبد الصالح :
65- قام موسى ذات يوم خطيباً في بني إسرائيل ، يدعوهم إلى الله ، ويبدو أن حديثه جاء جامعاً ، بعد أن انتهى من خطابه سأله أحد المستمعين من بني إسرائيل : هل على وجه الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله؟ فرد موسى مندفعاً : لا ، فبعث إليه جبريل يسأله: يا موسى ما يدريك أين يضع الله علمه؟ أدرك موسى أنه تسرع ، وعاد جبريل عليه السلام ، يقول له : إن لله عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك .
66- تساءل موسى : أين يجد العبد الصالح لكي يتعلم منه الحكمة ؟ أوحى الله إليه أنه سيعثر عليه في ) مجمع البحرين) وأن يحمل معه حوتا في مكتل ، أي سمكة في سلة ، وفي هذا المكان الذي ترتد فيه الحياة لهذا الحوت ويتسرب في البحر، سيجد العبد العالم ، انطلق موسى ومعه فتاه يوشع بن نون ، وصل الاثنان إلى صخرة جوارالبحرعند مجمع البحرين ، رقد موسى واستسلم للنعاس ، وبقي الفتى ساهراً ، وألقت الرياح إحدى الأمواج على الشاطئ فأصاب الحوت رذاذ فدبت فيه الحياة وقفز إلى البحر .
67- استيقظ موسى من نومه ونادى يوشع بن نون لاستئناف المسير، وأنسى الشيطان يوشع بن نون قصة السمكة فلم يخبر موسى عليه السلام بما حصل ، وسارا مسافة طويلة حتى شعرا بالتعب والجوع ، قال موسى لفتاه : هات طعامنا لقد تعبنا من طول الطريق ، وهنا تذكر يوشع ما حصل للسمكة فقال لموسى : أتذكر المكان الذي استرحنا فيه لقد عادت الحياة للسمكة واتخذت طريقها إلى البحر ، ولقد أنساني الشيطان أن أخبرك ، قال موسى وقد أشرق وجهه :هذا ما كنا نطلبه هيّا بنا إلى الصخرة التي جلسنا عندها وعادا إلى نفس المكان الذي استراحا فيه
68- هناك وجد موسى الرجل الصالح (يقال انه الخضرعليه السلام وكان نبياً من الأنبياء) وسأله الخضر: من تكون ؟ فرد موسى : أنا موسى بن عمران ، فقال الرجل الصالح :نبي بني إسرائيل ؟ قال موسى متعجباً : نعم . . ولكن من أخبرك بذلك ، فرد الخضر: أخبرني الذي أرسلك إليّ .
69- أدرك سيدنا موسى أنه قد عثر على الرجل الذي يبحث عنه ، قال له موسى أريد أن أصحبك لأتعلّم منك ما علمك الله سبحانه وتعالى ، قال الخضر: (إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) ، قال له موسى (سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا) قال الخضر: إذا أردت أن ترافقني في رحلتي لا تسألني عن أي شيء أقوم به ، وسوف أحدّثك عنه فيما بعد ، فوافق سيدنا موسى على ذلك وسارا معاً
70- فانطلقا يمشيان على الساحل، فمرت بهما سفينة، فطلبا من أهلها أن يركبا معهم، فلما ركبا قَلَعَ الخَضِر لوحًا من السفينة فخرقها، فقال له موسى: أَخَرَقْتَ السفينة؛ لتُغرِق أهلَها، وقد حملونا بغير أجر؟ لقد فعلت أمرًا منكرًا، قال له الخَضِر: لقد قلت لك من أول الأمر: إنك لن تستطيع الصبر على صحبتي ، قال موسى معتذرًا: لا تؤاخذني بنسياني شرطك عليَّ ، ولا تكلفني مشقةً في تعلُّمي منك.
نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام
إستكمال قصة موسى والعبد الصالح :
71- بينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصرا غلامًا يلعب مع الغلمان، فقتله الخَضِر، فأنكر موسى عليه وقال : كيف قتلت نفسًا طاهرة لم تبلغ حدَّ التكليف ، ولم تقتل نفسًا ، حتى تستحق القتل بها؟ لقد فَعَلْتَ أمرًا منكرًا عظيمًا ، قال الخَضِر لموسى معاتبًا ومذكرًا : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرًا على ما ترى من أفعالي مما لم تحط به خُبْرًا؟ قال موسى له : إن سألتك عن شيء بعد هذه المرة فاتركني ولا تصاحبني ، قد بلغتَ العذر في شأني .
72- فذهب موسى والخَضِر حتى أتيا أهل قرية ، فطلبا منهم طعامًا على سبيل الضيافة ، فامتنع أهل القرية عن ضيافتهما، فوجدا فيها حائطًا مائلا يوشك أن يسقط ، فعدَّل الخَضِر مَيْلَه حتى صار مستويًا ، قال له موسى : لو شئت لأخذت على هذا العمل أجرًا تصرفه في تحصيل طعامنا حيث لم يضيفونا ، قال الخَضِر لموسى : هذا وقت الفراق بيني وبينك ، سأخبرك بما أنكرت عليَّ من أفعالي التي فعلتها ، والتي لم تستطع صبرًا على ترك السؤال عنها .
73- أما السفينة التي خرقتها فإنها كانت لأناس مساكين يعملون في البحر عليها سعيًا وراء الرزق، فأردت أن أعيبها بذلك الخرق؛ لأن أمامهم ملكًا يأخذ كل سفينة صالحة غصبًا من أصحابها ، وأما الغلام الذي قتلته فكان في علم الله كافرًا، وكان أبوه وأمه مؤمِنَيْن، فخشينا لو بقي الغلام حيًا لَحمل والديه على الكفر والطغيان؛ لأجل محبتهما إياه أو للحاجة إليه ، فأردنا أن يُبْدِل الله أبويه بمن هو خير منه صلاحًا ودينًا وبرًا بهما.
74- أما الحائط الذي عدَّلتُ مَيْلَه حتى استوى فإنه كان لغلامين يتيمين في القرية التي فيها الجدار، وكان تحته كنز لهما من الذهب والفضة ، وكان أبوهما رجلاً صالحًا، فأراد ربك أن يكبَرا ويبلغا قوتهما، ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك بهما ، وما فعلتُ يا موسى جميع الذي رأيتَني فعلتُه عن أمري ومن تلقاء نفسي ، وإنما فعلته عن أمر الله ، ذلك الذي بَيَّنْتُ لك أسبابه هو عاقبة الأمور التي لم تستطع صبرًا على ترك السؤال عنها والإنكار عليَّ فيها.
وفاة سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام :
75- عاد موسى إلى قومه ، وظل يعظهم ويهديهم إلى النور والهداية ، و كان يعلمهم التوراة إلى أن اقترب أجله وكان لم يزل في التيه ، فكان يدعو ربه : رب أدنني إلى الأرض المقدسة رمية حجر، أحب أن يموت قريباً من الأرض التي هاجر إليها، ولكنه لم يستطع ومات في التيه ، ودفن عند كثيب أحمر ، حدث عنه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : لما أسري بي مررت بموسى وهو قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر ، وقيل أن عمر موسى عليه السلام عند وفاته مائة وعشرين سنة، والله أعلم ، وتولى يوشع بن نون أمر بني إسرائيل.